وحده الخريف ينشر رائحة الزيتون
وسط خريف مشبع بالكآبة افتقدتك،كنت كصاحب جوع عتيق،أتلقف اللقمة في لهفة زائدة عن اللزوم،العين هي التي تشبع وليس البطن،وبطبع البوهالي طلبت من صديقي أن يترك لي نصيبي من لحميس المشبع برأس الحانوت والحلبة والبصل الاحمر إن وجد.
ولم يتأخر الرد فبعد دقائق معدودة وصلتني رسالة قصيرة منه تخبرني أن نساء الحي قد اعددن الحميس…هناك أكلت كفايتي وزيادة لدرجة أن عيني دمعت ..ولا أدري هل بسبب البهارات والتوابل،أم بسبب حزن دفين يصاحبني أينما حللت وارتحلت، فيصعد متى يشاء ليخبرني انه موجود بالفعل والقوة.
عبر الخريف الخاوي كما يسميه اجدادنا خصوصا أهل الفلاحة والمنحدرين من القبائل والمداشر والدواوير،افتقدتك لدرجة البكاء،تحسست الأمكنة،كانت تملؤها البياضات ،وتكتسحها الفراغات،وتكللها ندف الحيرة والشرود والكآبة.
وحده الخريف يجر الأهواء والأمزجة الى عوالم مظلمة تسكنها البرودة. وحده الخريف يرسم ملامح الكوات الممتلئة بنسج العناكب وموت الذكور منها في معارك تحدي خاسرة…وبمناسبة الخسارة ماذا ربحت؟لاشيء غير فتات مجزإ وباهت في دنيا تافهة اثمنتها بخسة وموجبة للانهيار.
وحده الخريف يقنن المسافات ويجعلها أكثر قابلية للتكلس والتشيؤ،هل يعود حزني وجزعي الى تلك البوهالية التي شجعتني على شرب ماء سقاية المقابر،وهل عدوى الموتى تنتقل الى الاحياء بمجرد شرب مائهم…قالت لي تلك المجدوبة ان جدها خرج له تيس أسود وقال له:ابتعد عن ابنائي..ولاتقترب من مساكنهم…تكلمت كثيرة تلك البوهالية عن حمام النساء الذي تعرج عليه عند الفجر…ولاتخاف من الجن بل تتحداهم وتتحدث عنهم بفرح كبير..وحماس لا نظير له.
وحده الخريف احتفظ بورقة صفراء من شجرة كالبتوس،فاندست بين زجاج السيارة وحواشيه المطاطية…
وحده الخريف الذي تراكمت فيه الأحداث ،وطفت على سطحه موجات من تباريح شوق قديم /جديد،مهلهل وضيق،منشرح ومنقبض…تجمع كل شيء في سلة واحدة وكيس واحد،وصندوق واحد…وبعد كل وجبة يسود الهدوء في الاحياء الصامتة،كل شيء مغلق النوافذ والابواب والقلوب والعتبات،لاحديث ،ولاوصال أواتصال..لاشيء غير تحضير روتيني لمسلتزمات الاسبوع ،عدس وفاصولياء،سمك مقلي،وحصص من الدجاج الابيض وضعت في أكياس صغيرة تسميها النساء البارعات في الاقتصاد المنزلي”الكميسة” بسبب ارتفاع ثمن اللحم الذي لم يعد في استطاعة الفقراء الحلم ب”شنتيتة “واحدة منه.
وحده الخريف…يجعلني اصاب بحمى القرم..وهي إشارة فصيحة “لهوايش اللحم ” ولولا الخوف من تهم التشبه بالنساء لسميته(وحما).
وحم الحنين الى الماضي الذي ماتزال جيوشه تطرق بابي بقوة، ووحم الحاضر المشبع بالجحود والنكران وعدم الاعتراف بالجميل، ووحم التحليق في ملكوت البحث العلمي واستنشاق عبق المدرجات من جديد،والنهل من رحم الخزانات الوسائطية ،وتزويد العقل بالمعرفة والعلم هروبا من صدإ الأمكنة الميتة ،والفضاءات الميتة المشبعة بالطاقة السلبية.
كيف أحارب البياضات من جديد؟كيف أرد السروج الى خيولها…وحده الخريف ينشر رائحة الزيتون ،ويمني نفوس الفلاحين بموسم زيتون مبارك بزيته المباركة،ورائحتها النفاذة التي تتسرب إلى مسام العروق.
وحده الخريف يجعلنا نخطط لمصاريف الأبناء ..الساعات الاضافية، وترتيب اولوياتهم،وحمل مشاعرهم وأحاسيسهم الى دواخلنا من أجل تأويلها اولا وبعدها نقوم بتصريفها وأجرأتها.
وحده الخريف المنتظر لأقل خطإ منا،جعل حكايتنا تنتهي بمجرد خلاف بسيط حول قضية ذات طابع فلسفي ،هل نعيش اللحظة ،ام نعيش على الانتظار؟.
جواب اصرت البوهالية على أن يكون انتظارا طويلا حتى ولو على حساب العمر الذي يضيع هباء منثورا…وبذلك كان الفراق أمرا حتميا لضرورة اعتبرتها واقعية ولاتحتمل التأجيل أو التسويف.
وحده الخريف كان قادرا على تذويب المشاعر وجعلها بلامعنى ولافائدة لأن كل شيء فقد معناه واصبح اجوفا …
بعد وقفات كانت تقتضيها طبيعة المرحلة،لم يكن النقاش فيها موفقا،وانا لست مخصصا في ترميم القلوب وشفاء العلل،تبخرت الاماني والوعود المعسولة،ولم يبق غير الحجارة والاشواك..ومن بعيد كان نباح الكلاب يتردد صداها في كل مكان…
بدت لي المدينة شاحبة وفارغة،حزينة ومتبلدة بالسحب..اختفت الخيول وزرقة السماء…وتسللت في الفضاء موجة حر شبيهة بمتاخ ولاية اريزونا الأمريكية..اختفت بائعات الهوى وبائعو التماثيل والصحون الساخرة من عمق الانسان وغراميته حين كتب عليها “الى اعز الناس” كانت الصحون تنزف دما وهي تبكي ألما على مانقش بداخلها،وعبر ريح الشركي تبرأت ممن كتبوا عليها”الى اعز الناس”.
وحده الخريف هدم الخيام،واستعجل الجميع للرحيل…اما انا فما زلت لم اتخلص من آثار ماء الحنفية النابع من قبور الموتى…وحدها البوهالية رمتني بسهم الشرب من مياه الموتى واختفت عن الانظار.