الجزء الخامس
بقلم: عبداللطيف خالد
بعد واقعة التفكير في الانتقام التي خطط لها علال في شهر رمضان الكريم للتخلص من غريمه الذي أسقط كرامته وعزة نفسه في الوحل، واستبدل قوته واندفاعه بصمت رهيب، وسكوت ملتبس،جعله يدخل في سلسلة لامتناهية من السلوكات المبهمة والغريبة كإصابته بالاكتئاب وممارسة العزلة على ذاته في قسوة واضحة على ذاته، فبدأ يكلم نفسه، حتى ظن به الجيران الظنون ، ولم يعد يرى غير معصب الرأس ، مرتعش الاطراف، تاركا لحيته وشاربه ينسدلان على فمه وحواشيهما، وفوق رأسه تساقطت أوراق شجرة الخوخ المتواجدة بباحة بيته.
وباختفاء علال، حلت على الحي ظلمة ووحشة، وتذكر سكان الحي عنترياته وبطولاته التي لا تخلو من حيوية وحياة بهيجة كانوا يستمتعون باحداثها ووقائعها، فاستشعروا الفراغ في حياتهم، وأيقنوا ان علال تحفة نادرة ماجاد بها الزمان، فقرروا زيارته في هذا الشهر الفضيل بمبررات الاستحياء من الله وملائكته التي تحف بافئدة ساكنة حي بودراع، وتكاد اجنحتها الناعمة المضخمة بالمسك ورائحة الجنة تلمس جدران بيوتنا الواطئة التي نمت فوق اعشاب ونباتات برية، ووضعت على جنباتها شظايا زجاج ذات نتوءات حادة حتى لايجرؤ اللصوص على اقتحام بيوت البسطاء.
الكثيرون من الجيران عادوا علال في بيته، واشفقوا على ما آل إليه حاله وحالته التي لاتسر عدوا أو صديقا.
آزروه وتعاطفوا معه، فذكروه باهميته في الحي، وان مايقوم به ماهو إلا من باب الغيرة على الجيران وعلى هذا الحي المجيد وان إختلفت طرق الغيرة واساليب التعاطي مع بائعي الكروش، وكيفية التعبير عن الرجولة والوطنية والشهامة ، وبهذا الكلام الموزون المشبع بطلاء كله مديح واطراء في شخص علال، سدت جميع ثقوب الخوف واللاطمأنينة التي عانى من ويلاتها عباس كثيرا، وتمكن سليمان بائع الحلزون بدهاء الماكر، من رد الاعتبار لعلال، وهو يردد على مسامعه، كلمات عسلية كبيرة المعاني عميقة التأثير، جعلت جروحه الداخلية تندمل، وهزيمته تمحى بسرعة الضوء . قال له سليمان بالحرف وبصوت متهدج:”إن الحي بدونك ياعلال لايساوي حبة خردل، وانك (عمارة الدار)وركيزة حي بودراع، ومهما فعل عدوك فهو مجرد جبان سدد لك ضربة على حين غفلة، وانك بالرغم مما حصل تظل في ذلك الحدث، ستظل قويا والجيران في حاجة إليك..
انفرجت اسارير علال، وضحك حتى بدت نواجذه، وعادت الدماء الى وجهه،بعدما داهمه الشحوب والاصفر لفترة ليست بالقصيرة، الكلام المعسول جعله ينسى ماجرى، فانتفخت اوداجه بسبب عبارات الود التي القاها سليمان الداهية على مسامعن، وكان لها الأثر الطيب ، والوقع الناجع والناجح.
ولإضفاء الطابع الرسمي على الاعتراف بشجاعة علال واهميته،اقيمت ليلة رمضانية بمنزل الجيلالي عرضت فيها قصاع الكسكس مهيأة بالكرداس وذيل الخروف الملفوفة جوانبه بالشحم،ووزعت كؤوس الشاي الممتنع وحلويات لهبيلة والراية والشباكية الشعبية.
فرحنا نحن الصغار الى كل حدث جميل يزيل التعاسة والعنف من حينا ولانريد ان نرى في الدرب من قلوبهم تسعى الى هدم العلاقات الطيبة،وفرحنا لكل لقمة كسكس ازالت الجوع من حلوقنا المتعبة بالركض والجري بلاهوادة، ووثقنا مرة اخرى لنساء ورجال الحي الذين قدموا لنا معاني الرضى والابتسامة والتسامح حتى نكون قدوة لهم عندما نكبر..
هكذا هو حي بودراع، وهذه هي كل شوارع واحياء المدينة التي تنتعش فيها الحياة برمضان مكتمل الاركان، مزهوة فيه المشاعر والقلوب والعواطف…انطلاقا من اصرار الشحمي اليومي على الصعود الى سطح البلدية منتظرا لحظة الاذان ليشغل الزواكة التي تصدر صوتا أشبه بصفارات الانذار، بعدها يتفرق الجميع من أجل الافطار..وكنا نتزاحم مع الكبار حول مطاردة الافطار، لكن الأسبقية للصائمين، لذلك كنا نحاول جاهدين على تجربة الصوم لعلنا نحظى بمكانة وموقع بينهم، وبالفعل نرى في عيون الوالدين تشجيع واعجاب كبيرين.
يتبع