أيهما كان امتدادا للآخر ؟ هل كان المغرب إمتدادا لموريتانيا ؟ أم كانت موريتانيا إمتدادا للمغرب ؟.
لا أريد أن يكون هذا التساؤل محل تأويل يسيئ إلى ما نحن بصدده ، أي ربط العلاقات المغربية الموريتانية بتأبين رجل سعى رفقة نخبة من أبناء موريتانيا في وقته إلى ربط مصير بلاده بمصير المغرب.
لقد طرحت تساؤلي وأنا بصدد تأبين ذلك الرجل العظيم في سيرته العطرة وفي مكاسبه العلمية ، وأعني به المرحوم المختار ولد أباه الذي أختاره الله لجواره في أواخر شهر دجنبر 2023، لقد كان رحمه الله يمثل ذلك الإمتداد المتشابك الذي دفعه هو ونخبة من إبناء موريتانيا الشقيقة إلى السعي لكي لا يتحول الكيان الموريتاني إلى دولة ذيل لفرنسا ، كان جزء من الموريتانيين يعتزمون إقامتها بالتعاون مع المستعمر الفرنسي ، وكان أفراد تلك النخبة لا يريدون لذلك الكيان أن يكون سببا في الإنفصام الكلي للروابط التي جمعت في فترة من التاريخ بين موريتانيا والمغرب وبين شعبيهما.
كان فقيدنا المرحوم المختار ولد أباه وأمير الترارزة فال ولد اعمير وألمرحوم أداي ولد سيدي بابا وآخرون من النخبة الموريتانية قد حجوا إلى المغرب غداة إستعادته لاستقلاله ، ليبلغوا للملك الراحل المرحوم محمد الخامس مشاعر الموريتانيين نحو المغرب ورغبتهم في الإلتحاق بركب الحرية ومرافقة الشعب المغربي في مسيرته لبناء المستقبل المشترك .
وبتجديدهم للبيعة التي كانت في عنق أجدادهم لسلاطين المغرب في وقت من الأوقات عبروا في الواقع عن إرادتهم وإرادة جزء مهم من الموريتانيين في ربط الماضي بالحاضر.
ولم يكونوا يرون في وجود ذلك الإستعمار المزدوج الفرنسي الإسباني الذي قسم الصحراء وظل بعد إستقلال المغرب يتحكم في جزء كبير منها ، إنطلاقا من إقليم طرفاية إلى إقليم وادي الذهب ، لم يكونوا يرون في ذلك عائقا يحول دون أن يعيد التاريخ نفسه بوجود دولة شبيهة بما كانت دولة المرابطين المنحدرة من الصحراء قد أقامته على ضفاف المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط ، وامتد سلطانها في وقت من الأوقات ليشمل الإندلس ، عندما هب السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين لإنقاذها من الحملات العسكرية التي إستهدفت إنهاء الوجود العربي الإسلامي فيها في القرن الحادي عشر الميلادي.
ونتيجة لذلك إمتد حكم المسلمين في ربوع الأندلس أربع قرون أخرى شهدت أزهى فترات الحضارة العربية وأشعت بنورها على أروبا التي كانت شعوبها تئن تحت وطأة الجهل والتخلف
لم يكن القدر قد ساعد على تحقيق ذلك الحلم الذي راود تلك النخبة من الموريتانيين الذين حجوا إلى الرباط من أجل إحياء الروابط التي كانت قد وحدت بلدهم بالمغرب في فترة من التاريخ المزدهر للمنطقة المغاربية.
ولم تكن ظروف البلدين وإمكانياتهما تتيح حتى التفكير في طبيعة الروابط التي يجب إحياؤها ولا الوسائل التي يتعين إستعمالها.
وحتى عندما نقل جيش التحرير المغربي نشاطه سنة 1958 إلى الصحراء التي كانت ما تزال تخضع للإحتلال الإسباني ، لم يكن الموريتانيون بمن فيهم أفراد تلك النخبة التي جاءت إلى المغرب قد انضموا ، حسب علمي إلى الجهاد المسلح الذي إستهدف تحريرها ، وقد كنت من الصحفيين المتتبعين وأنا أشتغل في جريدة “العلم “ ، لنشاط الكفاح المسلح الذي إنضم إليه الصحراويون الخاضعون للإحتلال الإسباني.
وكان الموريتاني الوحيد الذي علمت شخصيا بالتحاقه بجيش التحرير هو المرحوم محمد باهي حرمة الذي إشتغلت إلى جانبه في جريدة العلم ، التي التحقنا معا للعمل بها في منتصف سنة ١٩٥٧، ثم جمعني به رحمه الله إنتسابنا معا إلى جريدة “ التحرير “ منذ صدورها في أبريل 1959، وكان المرحوم باهي قد صاحب القيادة الجزايرية التي إنطلقت من المغرب في منتصف سنة 1962، بقيادة أحمد بنبلة نحو العاصمة الجزايرية للإستيلاء على الحكم ، مبعدة على ما يبدو القادة الميدانيين الذين قادوا الجهاد المسلح داخل وطنهم .
وبالإضافة إلى جماعة أمير الترارزة كان المرحوم حرمة ولد بابانا العلوي من الشخصيات الموريتانية التي إلتحقت بالمغرب معلنة إنفصالها عن التعاون مع السلطات الفرنسية في مخططها لإقامة دولة مستقلة في موريتانيا ، وقد أحدث انفصاله صدى مدويا في مختلف المحافل نظرا للمكانة السياسية التي كان يتمتع بها ، إذ كان عضوا برلمانيا في الجمعية الوطنية الفرنسية نائبا عن موريتانيا . والظاهر أنه لم يكن يرتبط بعلاقة وثيقة مع مجموعة أمير الترازة التي قدمت الى المغرب من نواكشوط ، لتعلن معارضتها لمشروع الدولة الموريتانية المنفصلة كليا عن المغرب
بيد أنه بعد الإعلان عن قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية سنة 1960عاد أغلب الشخصيات الموريتانية إلى وطنهم تدريجيا ، باستثناء المرحوم المختار ولد أباه الذي ظل لفترة سنوات مرتبطا بالمسؤوليات الإدارية والثقافية التي إسندت إليه في المغرب ومن بينها منصب مدير مؤسسة الإذاعة والتلفزة الوطنية ، ولا أعرف في أي سنة التحق ببلده ليضع رحمه الله إمكانياته العلمية والثقافية والإدارية في خدمة وطنه الموريتاني ٠ ولقد كان من أجل وأعظم ما أنتجه رحمه الله ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية . ويقال بأن هذه الترجمة كان لها نفع كبير في حظيرة المجتمعات المسلمة في الأقطار الإفريقية التي إتخذت الفرنسية لغتها الرسمية في التدريس وفي تدبير شؤونها العامة.
وحسب علمي فلم يبق مرتبطا طوال حياته بالمغرب من تلك النخبة سوي المرحوم أداي ولد سيدي بابا الذي ظل مقيما به ومحتفظا بجنسيته المغربية ، كما إحتفظ المرحوم باهي محمد حرمة بجنسيته المغربية ، لكنه ظل مقيما في المهجر بالجزائر ثم بفرنسا ٠
ولقد تقلد المرحوم ولد سيدي بابا منصب وزير الأوقاف ، ثم إنتخب بصفته نائبا برلمانيا رئيسا لمجلس النواب ٠
أما المرحوم باهي فلقد كان كاتبا وصحفيا طوال حياته إلى أن إختاره الله لجواره سنة 1996ودفن في تراب وطنه المغرب الذي ظل مخلصا له .
وقد عاش في الجزائر منذ سنة 1962إلى أن اضطر لمغادرتها سنة 1975، ليتخلص من العرض الذي قدمه له شخصيا الرئيس هواري بومدين بأن يتولى منصب رئيس الجمهورية الصحراوية التي خططت الجزائر لإقامتها ، في محاولة للحيلولة دون تطبيق إتفاقية مدريد المبرمة بين المغرب وموريتانيا من جهة وإسبانيا من جهة أخرى ؟
وكان قد بدأ التمهيد لأنهاء الإستعمار الإسباني بأقامة فترة إنتقالية بمقتضى إتفاقية مدريد المبرمة في 14نوفمبر 1975 ، تمهيدا لجلاء القوات الإسبانية بحلول نهاية فبراير 1976 ، وبالتالي تطبيق ما يفرضه ما قضت به محكمة العدل الدولية التي أقرت بوجود روابط البيعة بين قبائل الصحراء وسلاطين المغرب قبل الشروع في إحتلالها من طرف إسبانيا سنة 1884، مستغلة ضعف الدولة المغربية ، وتنفيذا لمخطط الدول الأروبية الإستعمارية القاضي بتقسيم الكيانات الإفريقية واستغلال خيراتها وثرواتها
لقدكانت إتفاقية مدريد المبرمة بعد نجاح المسيرة الخضراء التي استعاد المغرب بمتضاها سيادته على صحرائه ، قد أوكلت إلى موريتانيا والمغرب تدبير مستقبل الصحراء ٠
وبمقتضى ما توصل إليه قادة البلدين تسلمت موريتانيا إقليم وادي الذهب ، لكن النظام فيها إنهار أمام الحرب الشرسة التي شنتها الجزائر على موريتانيا بواسطة فلول الإنفصاليين الصحراويين ، ولم يستمر حكم موريتانيا للإقليم سوى أقل من ثلاث سنوات ، إذ في غشت 1979أعلنت السلطات الموريتانية تنازلها عن سيادتها على إقليم وادي الذهب ، فكان ذلك دافعا لرؤساء القبائل في الإقليم للإعلان عن تجديد البيعة لأمير المؤمنين الملك الحسن الثاني رحمه الله ، والتالي أتيح للمغرب بسط سيادته على مجمل تراب الصحراء التي كانت خاضعة للإستعمار الإسباني ، وتم دحر القوات المعادية التي كانت تتقدم نحو مدينة الداخلة لإعلانها عاصمة للجمهورية الصحراوية الوهمية التي ظلت تائهة في الصحراء الجزائرية منذ الإعلان عن تأسيسها بحلول شهر مارس 1976 .
وبعد ، لقد مرت حتى الآن خمس وأربعون سنة على توحيد الصحراء المغربية ، شهدت خلالها نهضة عمرانية ، وبذلك أضحت سندا لموريتانيا في نهضتها الاقتصادية بما يؤمنه معبر الكركرات من سبل المواصلات والمبادلات التجارية والإقتصادية ، مع إمتدادها إلى أروبا .
وهكذا لم تفتأ العلاقات بين الدولتين موريتانيا والمغرب تزداد إزدهارا مع مرور السنين ، وتعكسها الحركة الدائبة التي يشهدها المركز الحدودي بمنطقة الكركرات التي تتجه ليتحول معبرها إلى مدينة جديدة مزدهرة كغيرها من مدن الصحراء المغربية
إننا عندما نتساءل اليوم مع أنفسنا عن أي من البلدين يشكل إمتدادا للبلد الآخر، نتذكر ما كان يسعى إلى تحقيقه جزء من الشعب الموريتاني ، وفي مقدمتهم تلك النخبة التي كان من أفرادها البارزين فقيدنا المرحوم المختار ولد أباه الذي نؤبنه كلما ذكرناه أو تذكرناه ، لنبرز سلوكه الوطني المتميز ومساهمته الثمينة في النهضةالعلمية والثقافية.
ونتذكر كل أؤلئك الرجال الموريتانيين الأباة ونترحم عليهم جميعا ونقول : لقد كانوا في مسعاهم يحلمون بالتقدم والازدهار للشعبين الموريتاني والمغربي.
ويحق لنا أن نتساءل أي إزدهار أكبر مما وصلت إليه الدولتان حاليا في تعًاونهما لبناء مستقبل مشترك ، وفي صيغة أخرى غير صيغة الإتحاد الذي سيظل المطمح الأسمى لكلا الشعبين الموريتاني والمغربي على غرار ما حصل سنة١٩٨٩ بتأسيس إتحاد المغرب العربي الذي أعلن عنه في مراكش عاصمة دولة المرابطين الذين انطلقوا من الصحراء ليؤسسوا إحدي أقوى وأوسع دولة في المغرب العربي الكبير.
الدار البيضاء 30 يناير 2023
لم تكن إعادة نشر هذا المقال. قد جاء عفويا ، فهو في الواقع جوابا على المساعي المشبوهة التي تستهدف ما نسجه التاريخ من روابط وعلاقات ظلت تنمو وتزدهر ، ولن تؤثر عليها عوادي الزمن . فبالأحرى محاولات ومساعي التافهين الإرتجاليين.