بقلم: عبدالله العبادي**
يقول أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة: “أنا لا أمتلك هويات متعددة، بل هوية واحدة مكونة من كل العناصر التي شكلتها وفق معايرة خاصة تختلف تماما بين رجل وآخر … كل من يتبنى هوية أكثر تعقيدا سيجد نفسه مهمشا…”
الحق في الاختلاف والتعايش السلمي سمات المجتمعات المتحضرة اليوم، وسمة الديمقراطيات الحديثة الراغبة في العمل على بناء مجتمع إنساني كوني. ولكن ما نراه اليوم من تفكك أو تضييق أو صراع من أجل إثبات هوية ما، هو رد على العولمة وصدام الثقافات والحضارات، هو رد أيضا على تسخير العداء والغضب الممنهج للاستيلاء على الآخر وعلى ثقافته وربما الرغبة في إقصائه، الشيء الذي يولد عنفا هوياتيا مضادا.
وما نراه ونعيشه اليوم، هو نتاج هذا المزج السام لكل العناصر الاستبدادية من طرف عناصر ما أو مجموعات ما أو حكومات ما، ليست مقيدة بتوازن الهوية الجامعة للمجتمع، وليست قادرة على خلق تعايش حقيقي إنساني بعيدا عن كل التفاصيل الصغيرة المشكلة للهويات المختلفة.
أعتقد انه من العدل القول أن الديمقراطيات الحديثة فشلت إلى حد كبير في احتواء هذه الإشكاليات المتفاقمة اليوم، سواء بالغرب حيث المجتمعات المتجانسة والهجرات المتسارعة، أو حتى في الدول الشرقية وخصوصا الدول العربية. فالأنظمة السياسية صارت مترهلة ومشوشة وعاجزة عن إيجاد حلول حيث يمتزج كل شيء، وتندثر الفوارق الطبقية الشيء الذي يؤدي إلى النزوع إلى العيش المشترك بعيدا عن التوترات العرقية والقبلية والطائفية والمذهبية وغيرها من إرهاصات المجتمع المعاصر، حيث تصير الرهانات الكبرى في بناء مجتمع متجانس أمرا لا بد منه، وقضية الهويات الضيقة أمرا مفروغا منه.
لما الجنوح اليوم إلى إعادة بناء قوميات صغيرة في مقابل قوميات أخرى داخل الرقعة الجغرافية الواحدة، وهي نفس القومية التي عاشت لقرون عدة بدون تفرقة ولا إحساس بالاختلاف رغم اختلاف اللهجة أو اللون أو العادات. فالاختلاف حق، لكنه في الوقت نفسه غنى هوياتي لبلد ما، في صالح الأفراد والجماعات والأمة أيضا. فالإيمان بالاختلاف ضروري وواجب ولا يحق لأحد أن يعلو على الآخر بعرقيته أو انتمائه، بل بالعكس يجب استخدامه كدافع وأساس للتعايش والبناء من أجل غد أفضل.
لنكن حكماء ولو مرة واحدة، حتى لا نفتح الباب على مصراعيه للغلو في الهوية والعرقية، ونهتم بالروافد المشكلة للمجتمع المعاصر باختلافاته وتلوناته التي يجب اعتبارها مكسبا وثروة ثقافية يجب البناء عليها من أجل مجتمع متعايش وسلمي. كما أن التعددية اللغوية والتداخل الثقافي وتنوع الروافد هو ما يجعل المغرب قوي وممتد، والدستور يقر في الفصل الخامس منه بأهمية هذا المعطى في بناء ثقافة العيش المشترك.
في المغرب مثلا، الملكية المغربية ليست نظام حكم فقط بقدر ما هي هوية جامعة تعبرعن هوية تراثية تاريخية متجانسة شعبيا وممتدة في التاريخ وتؤثر في الثقافة العامة لشعب بأكمله، فهي تفسر كل التفاصيل الجمالية والساحرة التي تعيشها المملكة أبرزها ذلك التقدير العميق للملكية وللتراث والعادات والتقاليد التي ميزت المملكة طيلة قرون من الزمن، فنحن نملك في المغرب نظرة خاصة للتاريخ والفنون والثقافة والوجدان الشعبي والعقل الجمعي، والكثير من التفاصيل التي تربط الشعب بالعرش، فهو التاريخ يمتد في الحاضر ليبني المستقبل المشرق. إنها أثنى عشر قرنا من الوجود.
**كاتب وصحافي من المغرب