أخبارالرئيسيةثقافة و فن

عشرون…

قصة من وحي الخيال.. لكنها اعمق و أقوى من الواقع

[ أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني ] – ابن عربي.

التقيت بك بعد عشرين عامًا، وما زال الحب صاخبًا، عنيفًا، هادرًا كالشلال، يجلجل في أعماقي كأنما اشتعل من جديد.

نسيم روحي، نور عيني، فرحي و ترحي، املي و المي المتجدد، يا نبض فؤادي، لست مذنبا في حقك، لكن.. سامحيني..

عشرون عاما مرت..

امتلا جسدك، لكن روحك، تلك الروح الثاوية في عينيك، لم تتغير؛ هي نفسها، حمامة سلام خالدة، أيقونة في كنيسة، الخيوط الأولى لفجر يطوق خاصرة الأرض منذ ملايين السنين.

أذكر، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، أنك كنت حبي الاخير و الأول. كنت في الثانية عشرة من عمري، وكنت أراك من شرفة البيت كالملاك، كديفا متوجة، كحورية البحر، كشمس مشرقة بلا موعد للغروب.

بقلم/ د. مهدي عامري

رايتك اول ما رايتك. صدفة. و اشتعل الحب في القلب كبركان فوار لا يهدأ.

“رباه، ما أعذب هذا الملاك! قلبي يذوب في هواه “.

كنت أردد هذه الكلمات في سريرتي، وأنا أراقبك من بعيد. خلقك المولى فأبدع تصميمك، وصنعك لتكوني وحدك المعجزة التي تملأ عالمي بالدهشة.

أردتك لي، بكل يقين و سذاجة و براءة الطفولة، بكل عنفوان مشاعري الجامحة التي لم تعرف القيود.

لكن الزمن لم يكن رحيمًا، وغبتِ طويلاً. هكذا دون سابق انذار. و بعد عام انتقلت مع اسرتي الى مدينة جديدة دون رجعة الى مسقط الراس. و بعد عامين عدت الى مراكش. و مرت السنوات.

عشرون سنة…

و على مدار هذه الاعوام كنت اتساءل :
. اين هي ؟
. تزوجت ام ظلت عازبة ؟
. هل كانت تبادلني نفس الحب ؟

و في ربيع العام الحادي و العشرين حدث ما لم اتوقعه في باريس حيث كنت هناك في اقامة علمية تمتد ثلاثة اسابيع.

كنت اتامل صفحة نهر السين و قلبي ممزق بين سيل من الذكريات. و فجاة كان احدهم يربت على كتفي من الخلف و صوت ناعم يصيح :
. رباه، ا هو انت ؟؟
و استدرت بسرعة البرق مكهربا بصوتك يا حورية البحر. هو ذاته. لم يتغير. مولاي. سبحانك !
و هتفت بمزيج متفجر من الدهشة و الحزن و الفرح :
. لا اصدق! يا الهي. يا لها من صدفة ينشق لها الحجر!

ما الذي حصل على مدار ما يربو على عشرين عاما من الغياب ؟

” لقد اجبرني أبي على الزواج من ابن عمي. لم يكن يحبني في البداية، ولم أكن أراه سوى حاجز بيني وبين أحلامي. لكن القدر جمعنا، ومع الأيام أصبحنا عائلة، ومع زوجي و ابنتي كنا نشكل صورةً لما يُفترض أن يكون السعادة. ومع ذلك، كنت أنت هناك، طيفًا لا يغيب عن خيالي، وجرحًا لم يندمل أبدًا.

واليوم، بعد كل هذه السنوات، أراك مجددًا. أراك وقد تغير العالم من حولنا، لكنك أنت لم تتغير. كان في عينيك شيء يجعل كل الكلمات في داخلي تتلاشى، ويترك قلبي في مهب ريح عاتية من المشاعر.

مثلما احببتني انا احببتك و لا ازال.

“هل تتذكرينني بعد كل هذه السنين ؟”

سألتك وأنا أحاول أن أكتم رجفتي. ابتسمتِ، وكانت ابتسامتك مثل شعاع الشمس الذي يبدد ضباب الصباح. و قلت لي بنظرة مشجعة :

. الان يرتب القدر لقاءنا هذا. و يحق لي ان اكلمك دون قيد او شرط. انا الان حرة سيدة نفسي. لقد توفي زوجي منذ ثلاث سنوات في حادثة سير..”

رحمه الله و لعل الموت هناك بداية الحياة هنا.

قلت لك دون ثانية تفكير واحدة منطلقا كالسهم المجنون نحو الهدف:

. تزوجيني حالا ايتها الديفا المتوجة ، يا نسيم روحي، يا ملاكي و ساهبك كل شيء. تصوري اني عازب لحد الساعة و اني لم احب امراة غيرك. قد يبدو لك الامر ضربا من الجنون. لكنه هو الواقع و انا متيم مجنون بك.. !!!

صعقت الديفا لهول ما سمعت. لكنها اطرقت في استحياء.. و ساد صمت طويل جدا..

لعله علامة الرضا..

و بعدها بدقيقتين ناولتني رقمك مكتوبا في ورقة صغيرة و قلت لي بصوت خافت :
. طلبك شريف و نبيل. انا الان اسكن في باريس. لقد غادرت مراكش مذ كنا في الثانية عشرة، و لعلك مكثت في المغرب.. لست ادري .. لا اعلم ..دعني افكر. في يد الله..
. اشكرك. اني راجع الى مراكش هذا المساء. للاسف..

و في تلك اللحظة، تذكرت مقطعا من رواية رومانسية كنت قد قراتها و انا ابن الثانية عشرة و لعلها سبب مصيبتي.. بعبارة اخرى لعلها اصل نظرتي العذرية للحب و احاطتي له بهالة من القداسة.

و بما ان للزمن الماضي ثقوبا فها هو مقطع الرواية بتصرف، اي كما تجود به ذاكرتي المتعبة :

” كانت في الثانية عشرة من عمرها. و كنت في السن نفسها. كان ذلك حبًّا عند أول نظرة، عند آخر نظرة، عند كل نظرة. كيف يمكنني أن أصف إحساسي الآن، بعد أن عاد الزمن بي إلى لحظة البداية؟ كان حبي لها سلاما في السماء و فوضى للعقل و الحواس على الارض. و لكن كنا نحن الاثنين يافعين جدا، فهل الحب لم يكن مقدرًا له منذ البدء أن يصل الى بر الامان؟

حين رأيتها لأول مرة منذ عشرين عامًا، كانت مثل الزنبقة البرية التي تنمو وحدها في برية قاحلة. كنت أنت الزهرة التي حلمت بأن أقطفها، لكن الحياة سرقتني بعيدًا. وها أنت اليوم، عائدة كأنك تحملين لي ذنب العشرين عامًا الماضية وتسامحينني بلا كلمات.

لكني أعرف أن هذا اللقاء مستحيل. بيننا أزمنة وجدران لا يمكن هدمها. ومع ذلك، سأظل أقول ما قاله احد العظماء : “الحب ليس مسألة قوة، بل مسألة ضعف”. و ضعفي أمامك لا نهاية له. سأظل أراك الحلم الذي لا يمكنني أن أعيشه، الحكاية التي ترويها النجوم في ليالي الوحدة، والنغمة التي تظل عالقة في الأفق كأنها وعد بحياة أخرى.

لا أملك سوى هذا اللقاء العابر، وهذه الذكريات التي تنبعث من رمادها كطائر الفينيق. وداعًا، ربيع فؤادي، سامحيني مرة أخرى، ليس لأني أخطأت بحقك، بل لأني لم أستطع أن أكون لك ما أردت أن أكون. اغفري لي فالحب العظيم، هو ذلك الذي يُبكينا أكثر مما يُفرحنا..

و في المساء طرت الى مراكش.. و مع رحيلي عنك، شعرت وكأن روحي تُنتزع مني مرة أخرى، كما حدث منذ عشرين عامًا. كنت أقف هناك، أراقب خطواتك وهي تبتعد، تحملين معك ما تبقى من قلبي، وتتركني وحيدًا مع أسئلة لا إجابات لها.

لماذا الآن؟ لماذا كان علينا أن نلتقي في لحظة لم يعد للحب فيها مكان سوى للذكرى؟

و ترددت بضع كلمات لكاتب رومانسي مجهول مجددًا في ذهني: “كان حبنا شيئًا غير مكتمل، كقصيدة تُركت بلا نهاية.”

و حاولت العودة، في مراكش، إلى حياتي المعتادة، إلى كتبي و دفاتري، لكنها هذه المرة كانت باردة كالواح من الثلج. كانت صورتك تتسلل إلى كل لحظة بهدوء عحيب، وتقتحم أفكاري بلا استئذان.

أذكر صوتك حين قلتِ لي: “لم أنسك يومًا.”

كيف يمكنني أن أصف هذا الشعور؟ مزيج من الفرح والألم، من الحنين والخوف. كنت أعلم أننا نعيش في عالم لا يسمح لنا بأن نعود كما كنا. كأن القدر يلهو بنا، ويمنحنا الفرصة لنرى ما فقدناه، فقط ليعيدنا إلى واقعنا المرير.

أذكر يوم رايتك لأول مرة قبل عشرين عامًا، كنت أقف في شرفة المنزل، و كنت تمرين بجوار الحديقة. كان كل شيء فيك يبدو كأنه خرج من حكاية خرافية: خطواتك الواثقة، شعرك الذي يتلاعب به النسيم، نظراتك التي كانت تعانق نظراتي للحظات خاطفة، ثم تهرب بعيدًا. كنت أشعر أن كل نبضة في قلبي تهتف باسمك.

و مرت الأيام، وكنت أراقبك من بعيد، أحاول أن أفهم كيف يمكن لإنسان أن يشغل هذا الحيز الهائل في قلبي. كنت أقرأ الكتب وأبحث عن وصف يشبهك، لكن لم أجد سوى ما قاله كاتب اخر نسيت اسمه و هويته : ” لم يكن الجمال في مظهرها، بل في الكيفية التي تجعل بها كل شيء حولها يبدو أكثر إشراقًا.”

كنتِ أنت هذا الجمال، كنت النور الذي يجعل كل شيء يبدو أكثر حياة.

و ها انذا افاجا بعد سيل من المحادثات النصية بيني و بينك بعد اللقاء الباريسي بتتمة هذه القصة :

” ومع ذلك، لم يكن الحب كافيًا. كان العالم أقوى منا. أذكر اليوم الذي أُعلن فيه زواجي من ابن عمي. كنت أشعر وكأنني أُنتزع من عالمي، و أُجبر على السير في طريق لم أختره. كنت أنظر إلى المرآة وأرى وجهي شاحبًا، لكني كنت أسمع صوت أبي يقول لي: “هذا هو نصيبك.”

وفي الليلة الأولى من زواجي، كنت أفكر فيك. كنت أتصور أنك تقف هناك، تراقبني، تلومني بصمتك. كنت أردد كلمات اول رواية قراتها و انا في سن الثانية عشرة: “الحب هو الجحيم الذي نعيش فيه طواعية.” فكيف لي أن أعيش الجحيم وأنت بعيد؟ لكن الحياة استمرت، وأصبح لي عائلة و طفلة سميتها مريم. ومع مرور الوقت، تعلمت كيف أعيش، لكنني لم أنسَ.

والآن، بعد كل هذا الزمن، عدتَ إلى حياتي كعاصفة لا يمكنني أن أسيطر عليها. كنت أريد أن أصرخ، أن أقول لك إنني أحبك، إنني لم أنسك يومًا. لكن كل ما خرج من فمي كان جملة واحدة : رباه ! ا هو انت ؟؟؟”

هل كان اللقاء صدفة أم عقابًا؟ لا أدري. كل ما أعرفه هو أنني سأظل أحبك، سأظل أراك في كل حلم، في كل لحظة أمل. وكما قال احد الشعراء : “الحب هو التذكر، والتذكر هو الحب.”

<< ربما لن نلتقي مرة أخرى، وربما سيظل حبنا محصورًا في صفحات الذكريات. لكنني أعلم أنني، في أعماقي، سأظل أردد: “سامحيني، يا ربيع فؤادي. سامحيني لأنني لم أكن قويا بما يكفي لأقاتل من أجلك..

و مر شهر كامل. ثلاثون يوما بالتمام و الكمال. و كرهت مراكش و الحياة في مراكش. و استقبلت ذات صباح حزين رسالتك التي زلزلت كياني:

موافقة على طلبك الزواج مني. حتى ابنتي مريم استحسنت صورتك و ووجدتك محبوبا مالوفا و في ملامح وجهك شبه كبير و مذهل من ابيها الراحل..

تجمد الدم في راسي و شراييني و لم اصدق ما قرات. كان الهاتف يرتجف في يدي، و كان عقلي يموج بمئات الأفكار، و كان قلبي ينبض بشدة كأنه يحاول أن يهرب من صدري. كيف يمكن لكلماتك القليلة التي نطقتِ بها، أن تشعل في داخلي عاصفة من المشاعر؟

جلست على أقرب كرسي، يداي ترتعشان، وأنا أفكر: هل أركض نحو المطار، هل أترك كل شيء خلفي لألحق بك؟ أم أنني أترك هذه القصة تمضي كما مضت كل الأحلام السابقة؟ لكن صوتا اخر من عالم الغيب كان يطاردني و يهتف بي :

ارحل و اقتف نداء قلبك. من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد.. و موتك اليوم ان تبعث و تولد من جديد.. ايها الشهيد، افن في من تحب !

و نهضت فجأة، و كأن قوة جبارة أكبر مني الاف المرات تدفعني الى الامام. التقطت حقيبتي الصغيرة، دون أن أفكر في ما أحتاج إليه. غادرت الشقة، ركضت إلى الشارع، و أوقفت أول سيارة أجرة رأيتها. قلت للسائق بنبرة حازمة: “إلى المطار، بأسرع ما يمكن.”

كان الوقت يمر ببطء لا يطاق. و كانت الطرقات تلوح وكأنها تمتد بلا نهاية، و تحولت كل اللحظات إلى ساعات بلا بداية و بلا نهاية..

كنت أشعر أن قلبي سبقني إليك، وأن جسدي يحاول اللحاق به. و عند نهاية الرحلة وهبوطي بمطار باريس، كنت أبحث بجنون بين الوجوه، و كنت أتمنى أن أراك، و أن ألتقي بعينيك لمرة أخرى.

وفجأة، هناك كنتِ. تقفين وسط الحشد، و عل محياك علامة ساعات من الانتظار ، و كانت صغيرتك مريم تحمل باقة من الورد ، و كان هذا دليلا كافيا على ان الحياة معجزة لا غير.

و تعانقت عيوننا مثلما تلتقي السماء بالارض في زمن الحب.

احسست أن الزمن توقف. و اقتربت منك بخطوات واثقة، رغم أنني كنت أرتجف من الداخل.

و اخيرا غمرتك بنظرة حنونة و قلت بصوت مرتعش : “أنا هنا يا حورية البحر.. انا هنا لاجلك ايتها الديفا المتوجة.. انا هنا معك للابد.. ولن أرحل..”

توردت وجنتاك من الخجل و الفرح و ارتسمت في عينيك ابتسامة واسعة، وكان النور الالهي المشرق من وجهك هو الإجابة التي كنت أبحث عنها طوال حياتي.

و كان المطار غاصا بالمسافرين. و كنا لا نبالي. و ساد بيننا صمت رهيب..

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button