أخبارالرئيسيةثقافة و فن

زينة الحياة

كان أبي دائمًا يرى في المال رسالة أبلغ من مجرد أرقام تُجمع أو دراهم تُنفق. لم يكن يعظنا حول كيفية الادخار أو يجلسنا ليُلقّننا دروسًا عن الثروة و طرق مراكمتها او الحفاظ عليها. بل كان يردد دائمًا بحكمة ينضح منها الحب:
” المال ليس مالك، إنه أمانة من الله لك ولأولادك. كن رسولاً أمينًا، واصرفه ليصل حيث يجب أن يصل “.

و قبل ثلاثين عامًا، حين كنت طفلاً صغيرًا، وقع حدث لن أنساه أبدًا، وقد علّمني أبي من خلاله درسًا سيبقى محفورًا في روحي ما حييت. كان أبي رجل أعمال بسيطًا، يعقد الصفقات التجارية بحذر ورؤية بعيدة، لكنه لم يكن طمّاعًا أبدًا. كان دائمًا يردد:

” المال وسيلة، وليس غاية. ابحث دومًا عن المعنى وراء ما تملكه “.

بقلم/ د. مهدي عامري

و ذات يوم، جاءت الفرصة التي لم يكن يتوقعها. كانت صفقة تجارية مربحة، حصد منها مبلغًا ضخمًا لم يسبق له أن امتلكه. لكن هذا المال، بدل أن يملأ قلبه بالسعادة، أغرقه في القلق والتساؤلات. جلس ابي على حافة سريره، ويداه ترتعشان وهو يحدّث أمي بصوت يملؤه الحيرة:
“هذا المال كثير جدًا. ماذا أفعل به؟ أخشى أن يُثقل روحي بدلاً من أن يمنحها السلام”.

مرت أيام قليلة بعد هذه الصفقة، وكانت الأسرة تعيش حياة هادئة ومتواضعة. إلى أن ضربتنا الصاعقة: أصيبت أختي كاميليا بمرض خطير ومفاجئ. و فجأة، انهارت الصغيرة ذات الخمس سنوات، وساءت حالتها بشكل أسرع مما كنا نتصور. كان الأطباء يتحدثون بلغة لا نفهمها، لكن كلمات مثل “عملية جراحية عاجلة” و”خطر على الحياة” كانت كافية لإشعال نار الخوف و الحزن في قلوبنا.

كان الوضع صعبا جدا. لم يكن هناك مجال للانتظار. أخذ أبي اختي كاميليا إلى أفضل مصحة خاصة في المدينة، ودون أن يساوم في تكاليف العملية الجراحية، دفع المبلغ المطلوب فورًا لإنقاذ حياتها. كان المبلغ كبيرًا، ربما كل ما ربحه من الصفقة الأخيرة. خمسون مليون سنتيم. لكن، في تلك اللحظة الفاصلة، لم يكن المال سوى وسيلة لتحقيق شيء أعظم: إنقاذ روح بريئة كانت تملأ بيتنا باعظم عاطفة في الكون : الحب.

و بعد ساعات طويلة من القلق والدموع، خرج الطبيب من غرفة العمليات و على محياه ابتسامة واسعة. العملية نجحت، وكاميليا ستتعافى. جلس أبي في زاوية المستشفى، ودموعه تنهمر لأول مرة منذ زمن طويل. كان يمسك يدي الصغيرة و يد امي ويقول لنا بصوت من سلم امره الى خالقه :
“الحمد لله ان كاميليا بخير. الآن فهمت. المال لا يثقل الروح إذا وُضع في المكان الصحيح. المال الذي كسبته كان رسالة، وكان عليّ أن أكون أمينًا عليها.”

بعد تلك الحادثة، تغيّر منظور أبي للحياة بشكل عميق. كان رجلا متدينا روحانيا بامتياز و لكنه أصبح بعد العملية يقرأ القرآن يوميا و يكثر الصدقات ، وكان يردد دائمًا آيات عن البركة، وعن الرزق الذي يُقسّمه لنا مولانا الرحمن الرحيم. و من ضمن هذه الايات ما زلت اذكر جيدا الى اليوم قوله عز و جل : << وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ >>.

كان ابي في كل مرة يتلو هذه الآية الكريمة يغمرنا، نحن أبناءه، بابتسامة حنونة، و كأن لسان حاله يقول: “أنتم الخير كله. و المال ليس مالي و لكنه مال الله و مالكم.”

و بعد سنتين، ابتسم الحظ لصديقة المقرب عبد العزيز و اصبح هذا الاخير من مليارديرات حينا، و سمعت ابي انذاك يتحدث مع الملياردير المتوج ساردا له قصة كاميليا بالكامل، لكنه ختمها بعبارة لا تزال ترن في أذني حتى اليوم:
“بصحتك و راحتك ا سي عبد العزيز و الله يبارك لك. عندما أعطاني الله المال، كنت أعتقد أنه مكافأة فحسب. لكنني أدركت لاحقًا أنه علاوة على ذلك فهو اختبار. المال الذي تنفقه في الخير، هو المال الذي يبقى. أما ما تحاول تخزينه خوفًا من الغد، فهو زائل لا محالة.”

و مرت الاعوام بسرعة البرق، وكبرت كاميليا، وأصبحت امرأة جميلة قوية، مليئة بالحب والطاقة. وكلما كانت تحتضن أبي، كنت أرى في عينيه ذلك البريق الممزوج بالامتنان واليقين.

وفي إحدى الليالي، جلسنا جميعًا حوله، وسأله ابني الصغير زهير ذو السبع سنوات ببراءة تنفطر لها القلوب :
“با سيدي.. هل ندمت يومًا على المال الوفير الذي صرفته لإنقاذ عمتي كاميليا؟”

ابتسم ابي و الاخرون، اما انا فانفجرت ضاحكا. و بعد دقيقتين، رفع ابي رأسه الى سقف البيت كانه يبحث عن شيء فقده او كأنه يسترجع ذكرى بعيدة، ثم قال:
” انت اصبحت كبيرا و الدليل انك تطرح سؤالا وجيها ذكيا كهذا.. كيف أندم يا زيزو ؟؟ هذا المال لم يكن لي أبدًا. كان أمانة، ووصل إلى المكان الذي اختاره الله له. إنفاقه كان واجبي، وليس اختيارًا.”

وفي يومٍ مشمس من ايام الحجر الصحي، بينما كنت أقرأ كتابًا لتوني روبنز، وقعت عيناي على جملة يقول فيها ما معناه :

المال الذي تنفقه لصنع حياة أفضل للآخرين، هو المال الذي يمنحك السعادة الحقيقية”.

و هنا تذكرت أبي فورًا، وشعرت كأن الكلمات كُتبت خصيصًا له اذ كان يجسد هذه الفلسفة ببساطته وصدقه.

و اليوم، وأنا أب لخمسة أطفال، أحاول أن أنقل إليهم ما علّمني إياه أبي. و أقول لهم دائمًا:
المال نعمة، لكنه ليس غاية. كن دائمًا وسيلة خير، ودع الله يختار الطريق“.

وفي كل مرة أنفق فيها المال لتعليمهم، و رعايتهم، أو حتى لإدخال السعادة إلى قلوبهم، أراه مثل القمر البهي.. ارى وجه أبي أمامي، بابتسامته الدافئة ونظرته المليئة بالحب

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button