أكثر المتفائلين لنهاية النظام البعثي في سوريا بعد ثلاثة و خمسين سنة من الحكم الشمولي العسكري لعائلة الأسد في سوريا لم يتوقع هذه النهاية الغير دموية التي يمكن إعتبارها ما يشبه عملية تسليم سلط صامتة بين قيادات رفيعة في النظام البعثي و قوات المعارضة السورية وفق توافقات إقليمية بضمانات دولية ،أغلبنا كان يتوقع نهاية شبيهة بنهاية نظام القذافي ليبيا أو صدام في العراق و حرب مدن و شوارع سوريا لكن إنسحابات تكتيكية للجيش السوري من مدن إستراتيجية في محور حلب – دمشق و محور درعا -دمشق يؤكد أننا أمام مسارين إستراتيجيين :
– المسار الاول مرتبط بطبيعة النظام السوري الذي خاض حربا أهلية طوال أربعة عشر سنة إستنزفت مقدراته و قواه و حولت الجيش السوري إلى مجموعات قتالية غير متجانسة و بدون هوية عسكرية أو عقيدة قتالبة واضحة فعمليات القتل و التهجير العرقي و البراميل المتفجرة و القصف الجوي للمدنيين هي أساليب أصبحت تطرح إشكالات أخلاقية في هياكل الجيش و قياداته التي كانت هي الأخرى تنتظر قرارا وقف هذه الحرب الوحشية و عدم التورط أكثر في سفك دماء الشعب السوري .
– المسار الثاني : مرتبط بقرار إقليمي و دولي على إخراج سوريا من معادلة الردع الإستراتيجي الإيراني لإسرائيل و إيقاف طريق الإسناد البري من طهران إلى الضاحية الجنوبية لبيروت عبر الأراضي السورية و يفتح الطريق أمام ممر داوود ليعيد تشكيل التوازنات في المنطقة و يمهد لإتفاق إقليمي موسع ينهي الحرب في غزة و التي أصبحت هي الأخرى تطرح إشكالات إخلاقية و قيمية حقيقية للضمير الإنساني العالمي بسبب الجرائم الفظيعة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في حق المدنيين .
ملامح الإتفاق بين النظام السوري السابق و قوات المعارضة السورية الذي يبدو أنه تم وفق توافقات إقليمية و ضمانات دولية من خلال تحليل الأحداث و الشواهد المتاحة على قلتها تضمن ثلاث شروط :
– أولا : الخروج الآمن لبشار الأسد و عائلته و كبار قيادات نظامه السياسية و العسكرية نحو وجهة سوف تتوضح في الساعات أو الأيام المقبلة .
– ثانيا : تسريح و تفكيك وحدات الجيش العربي السوري و التشكيلات العسكرية و الأمنية المرتبطة به تمهيدا ليسطرة العناصر المسلحة في المعارضة السورية على الوضع العسكري و الأمني في سوريا .
– ثالثا : إستمرار الحكومة السورية في أداء مهامها الوظيفية تجنبا لفراغ سياسي قد ينتهي بفوضى لا تحبذها مختلف الأطراف داخليا و خارجيا قد تتحول لحرب أهلية ثانية في سوريا .
الأكيد أن إسقاط نظام الأسد الدموي في دمشق و هذه التفاهمات هي جزء من عملية تقليم أظافر نظام الولي الفقيه في طهران الذي الذي حول منطقة الشرق الأوسط إلى فضاء مفتوح لمواجهات تكتيكية بين الحرس الثوري الإيراني مع مختلف دول المنطقة و القوى الفاعلة فيها لتنزيل مخطط توسعي يستهدف تقسيم المنطقة و السيطرة على مقدراتها خدمة للمشروع التوسعي الإيراني و الذي نجحت فيه مرحليا طوال سنوات الفوضى الخلاقة التي أنتجها الخريف العربي بتداعياته الإقليمية و الجيوسياسية .
سقوط نظام الأسد في هذا التوقيت هو مؤشر على الضعف الكبير الذي يعيشه نظام الولي الفقيه في إيران نتجية الضربات القاتلة التي وجهتها إسرائيل على أدواته في المنطقة سواء عملية تحييد حسن نصر الله و كامل الهيكل القيادي العسكري لحزب الله أو سلسلة الإغتيالات التي تمت في العمق الإستراتيجي للنظام الإيراني داخل العاصمة طهران و إستهدفت قيادات رفيعة في حماس بالاضافة إلى السقوط الغامض لطائرة الرئيس السابق لإيران إبراهيم رئيسي ، كل الشواهد تؤكد أن النظام الإيراني يعيش في ظل فوضى حقيقية و تضارب كبير في الأولوليات بالنسبة لاجنحة النظام و تراجع تأثير الحرس الثوري على السياسة الخارجية الإيرانية و رغبة كبيرة لمن يستعد لتولى حكم إيران في مرحلة ما بعد خامنئي على تطبيع كامل لعلاقات إيران مع محيطها الإقليمي .
يمكن فهم تخلي الحليف الروسي عن نظام بشار الأسد في ظل التطورات الميدانية في أوكرانيا لكن هذا لا يعني التخلي على التموقع الجيوسياسي الروسي في القواعد الروسية على الساحل السوري على المستوى القريب و المتوسط ، فالتواجد العسكري الأجنبي في سوريا هو الآخر يتعبر من الإشكالات التي لم تتضح طببعة التفاهمات و التوافقات بين مختلف الفواعل الإقليمية حولها فإيران لديها عددها 52 قاعدة عسكرية، إلى جانب 477 نقطة عسكرية و تركيا تسيطر على 8000 كيلومتر مربع من الأراضي السورية بالإضافة ل المواقع العسكرية التركية في سوريا البالغ عددها 12 قاعدة و114 نقطة، يقع غالبيتها في محافظة حلب التي يوجد فيها 58 موقعا، في حين يوجد 51 موقعا في إدلب، و10 في الرقة، و4 في الحسكة، وموقعان في اللاذقية، وموقع واحد في حماة.
و روسيا تسيطر على 21 قاعدة و93 نقطة عسكرية، بواقع 17 في حماة، و15 في اللاذقية، و14 في الحسكة، و13 في القنيطرة، و12 في حلب، و8 في ريف دمشق، و8 في الرقة، و8 في دير الزور، و6 في إدلب، و4 في حمص، و3 في محافظة درعا، وموقعين اثنين في كل من محافظات دمشق والسويداء وطرطوس ، و التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لديه 17 قاعدة و15 نقطة عسكرية، تتوزّع على محافظة الحسكة التي تحتضن 17 موقعا، وعلى محافظة دير الزور التي تضم 9 مواقع، وعلى محافظة الرقة التي تضم 3 مواقع، إضافة لموقع واحد في كل من محافظات حمص وريف دمشق وحلب.
الوجود العسكري في سوريا يعكس تداخل مصالح دولية متعددة، حيث تسعى الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب واحتواء النفوذ الإيراني، بينما روسيا كانت تدعم نظام بشار الأسد لتعزيز نفوذها الاستراتيجي. من جهة أخرى، تسعى تركيا إلى تأمين حدودها ومنع تشكيل كيان كردي يهدد سيادة و ووحدة الأراضي التركية ، بينما تعمل إيران على تعزيز وجودها عبر دعم حلفائها. كما تلعب دول الخليج دورًا في مواجهة النفوذ الإيراني، مما يجعل تغييرات الحدود والسيطرة مرهونة بالقرارات العسكرية لهذه القوى. في ظل هذه الديناميكيات، يبدو أن حالة التهدئة وتجميد خطوط التماس في ظل غياب إتفاق إقليمي واضح لن تستمر لفترة طويلة، دون مؤشرات على تغييرات جذرية في المستقبل القريب.
المشهد السوري ما بعد الأسد معقد و الوضع السياسي و العسكري به الكثير من الفراغات و عملية التغيير اليوم يقودها أبو محمد الجولاني كرجل له ماضي ملطخ بالإرهاب بقتاله إلى جانب تنظيم القاعدة و داعش و باقي تنظيمات التطرف العنيف في سوريا و المعارضة السورية اليوم تعيش في ظل غياب وضوح إيديولوجي يؤطر عملية التغيير، كما أن التوافقات الهشة الحالية في ظل التعارض الفكري و السياسي بين مختلف القوى الفاعلة في الأرض في غياب قرار توافقي إقليمي و دولي واضح لبناء حكومة سورية موحدة ينذر بحرب أهلية قد يؤدي ثمنها الشعب السوري وحده .