تهاويل
ليست المرة الأولى التي أحكي له بما وقع، فقد ناجيته مرات عديدة في غسق الظلام ، والليل البهيم ، أخجل أن أحدثه عن الجوع الذي اصابنا،والعطش الذي جفت له حلوقنا وشفاهنا، أستحيي أن الفظ أمامه بما آلت اليه الاوضاع، ألملم الجراح والجروح في كبرياء تداعت عليه كل عواصف العهر، وزوابع الزيف، ولكن بالرغم من كل شيء فأنا اثق في عدله، فأترك الديار ،واعود لاشجار السدر بحثا عن ظل محتمل يحميني من حر الهاجرة، وكنت دائما اجد عندها تلك المعلومة الثخينة في انيابها يسكن العطب، لعلها تعبت من شجع الانسان الذي لايتوقف، وفضلت أن تمنحه الموت الرحيم لعله يستريح. لقد تعودت على وقوفي الحزين أمام الاشجار المعزولة المنعزلة غير مبال بما يحدق بي من أخطار،وفي أوج استمرار الاوجاع على أشدها بين المستضعفين والموعدون بالعذاب ،تكمل كتائب الاستبداد جرائمها مستمتعة بما اقترفته أيديها في حق المغلوبين على أمرهم،حتى المنية لا تعرف طريقها اليهم الا بعد عمر طويل، ففي الليل تشارك الدنيا الزانية الاغنياء افراحهم ولياليهم الحمراء الموغلة في البذخ والترف، وغدا تعود لعادتها القديمة باكية مع الفقراء..
تحت شجرة السدر الشاحبة الظل،قالت لي سلحفاة البر” اثنان يكبران باستمرار، المخزن والسجون” فالأول ينتعش معه الرامود، والثاني فاتح ابوابه باستمرار، وحين يسأل هل امتلأت، يقول هل من مزيد”الان عرفت لماذا يقبع هؤلاء القابضون على الجمر وراء قضبان السجن؟ وعرفت لماذا سماه تلاميذي الامازيغ بالجبل بكلمة تتضمن حروف القلقة والجهر” بويكردان” وتعجبت من تشابه المضطهدين في وصف الاشياء، فلفظة بيوكردان تشبه كلمة” بوغمغام” وهلم جرا.
كدت أن أقول لشجرة السدر،أن وجهتي الثانية بعدها هي ضريح بويا عمر،لأنه أقل ضررا وأخف شرا من مارستانتهم،فعلى اسرتهم المدسوسة بالسم في الدسم،كان الموت يطل من كل مكان،لايراعي مشاعر الصغار وهم يتهيأون لاجراء العملية،وفي ظب الشرود الذي صاحبني حطت بالقرب مني بومة قائلة: مارستانتهم ومصحاتهم تشبه بوغمام او بويكردان،وذلك الديك المنفوش الذي كان يصرخ فوق جثمان امراة لفظت انفاسها الاخيرة لوحدها بعدما فرت الممرضات تاركات المحتضرة تواجه الموت لوحدها…في عز هذه الفوضى،راودتتي فكرة هي ان تكون خاتمة روايتي تشبه خاتمة هذه المرأة التي تخلى عنها الجميع،قلت لهم:في لحظاتها الاخيرة تخليتم عنها،ومن يدري لقد أرادت ان تترك وصية،أن تقول كلمة قبل الرحيل،أن تعري حقيقة ماعاشته من أحداث ووقائع،لماذا عجلتم بحتفها،وارسلتموها الى حتفها؟ حياة نكد عاشتها،ولم تترك لها فرصة لإخراج تلك الاوراق القديمة من جوف قرن الماعز.
هكذا خططتم بعجالة لطي ملفها.وبعد سنوات من الاستبداد والخوف،جرت مياه كثيرة تحت الجسر،وتقطعت حبات السبحة، وتحركت الرمال في كل الاتجاهات ، وظلت ابواب بيوغردان او بوغمام مفتوحة على مصراعيها لاستقبال المزيد من ضحايا الظلم والجور،استبداد سرى في كل مكان،وعبر الطرقات كانت جحافل الراحلين للضفة الاخرى تموت غرقا،او تموت من اليأس الذي لاينتهي.