أَنْتَ أَوْ لا أَحَد..
“قصة من وحي الخيال لكنها اعمق و اصدق من الواقع “
ليت الشباب يعود يومًا…
كنت في عنفوان الشباب، وكان العالم أمامي غارقًا في صمته، كصحراء تطفو على محيط من التيه، بلا أفق أو ماء. كنت أعيش وحدتي ككائنٍ هشٍّ يخاف حتى من ظله، أبحث عن شظايا الحياة في تفاصيل الأشياء الصغيرة. وكانت العصافير ملجئي الوحيد. كنت أشتريها بأقفاصها، وكأنني أشتري قطعًا من السماء لأحتفظ بها لنفسي، بعيدًا عن ضجيج البشر.
في زقزقتها، كنت أسمع نشيدًا خافتًا يردد أغنياتٍ لم تُكتب، وفي رفرفة أجنحتها كنت أرى أحلامًا لا طاقة لي بتحقيقها.
كانت هشاشتها تشبهني حد التطابق. لكن الفرق بيننا أنني كنت أضعها في أقفاص لتحميني من خوفي من الفقدان، بينما كنت أنا أسير في قفصٍ أكبر، قفص وحدتي الذي صنعته بيديّ.
زارتني أختي ذات مساء وهي تحمل صورة بين يديها، كأنها تحمل سرًا صغيرًا أرادت أن تزرعه في عالمي الموحش. كانت الصورة لامرأة تكاد ملامحها تضيء. وضعتها أمامي بابتسامة المنتصر، وقالت بثقة: “هذه هي. جميلة، أليس كذلك؟ إنها امرأة ستملأ حياتك. لا تخف، الحب يأتي بعد الزواج. الكل يقول ذلك. الزواج أولًا، ثم الحب.”
لم أجبها. كانت كلماتها الأخيرة تصطدم داخلي كحجر أُلقي في بركة ماء راكدة. الحب يأتي بعد الزواج؟ أي حبٍ هذا الذي يمكن أن ينبت بعد أن تُغلق الأبواب؟ لكنني لم أكن أملك رفاهية التساؤل. كان الفراغ داخلي أشبه بجوعٍ لا ينتهي، وكأنني رجل يبحث عن قشة يتشبث بها في مواجهة بحر الوحدة الذي لا يرحم.
التقيتها للمرة الأولى في مقهى صغير، وكان النهار ينحني تحت وطأة الخريف. جلست أمامي بابتسامة خفيفة كنسمة مرت بين أوراق شجرة عجوز. في عينيها شيء من السكون الذي يشبهني. لم يكن هناك وهج الحب الأول الذي طالما قرأت عنه في الروايات، لكن كان في حضورها ما يطمئن القلب المتعب، كأنها ماء بارد يسقي عطش الأيام.
تزوجنا. و انصرم العام الأول من قراننا كصفحة بيضاء لا شوائب فيها. كان كل شيء هادئًا، كأننا نعيش في حلم مؤقت. كانت تطهو لي الطعام، و تبرع في صنع الحلويات، و كنت أقص عليها حكاياتي الصغيرة التي تحمل ظلالًا من الماضي. كنا نضحك على أشياء بسيطة، كأننا طفلان يلعبان في حديقة لم تُزرع بعد. لم تكن هناك حكايات عظيمة، ولا لحظات ملحمية. كان كل شيء صامتًا، لكنه مألوف.
لكن السكينة دائمًا ما تخفي تحتها بذور الاضطراب.
مع بداية العام الثاني، بدأت الخلافات تظهر كشقوق صغيرة في جدار قديم. كنا نتشاجر على كل شيء: على الطعام الذي تنقصه البهارات، على الكلمات التي لم تُقل، وحتى على صمتنا الذي أصبح فجأة عبئًا. كنت أراقبها وهي تتحدث بعصبية، وأعلم أن غضبها لم يكن إلا محاولة لتكسير الجدار الذي فصل بيننا منذ البداية.
و في يومٍ من الأيام، جاء خالي لزيارتنا. كان رجلًا بسيطًا، لكنه خبر الناس و الحياة. قال لي وهو يضحك: “الشجار كالملح للطعام، لا مفر منه. لكنه يصبح خطرًا إذا زاد عن حده.”
انغرزت كلماته في ذهني كإبرة تخترق بالونًا ممتلئًا بالهواء. ربما كان على حق. ربما كان الشجار هو الطريقة التي نحاول بها أن نثبت وجودنا أمام الآخر. لكنها كانت طريقة مؤلمة، كأننا نحفر في أرواحنا بأيدينا.
كنت أحبها، لكن ليس بالطريقة التي تخيلتها. لم يكن حبًا عاصفًا أو ملتهبًا، كالذي شاهدته في مسلسل “أنت أو لا أحد”، بل كان حبًا هادئًا كالماء الآسن. كانت كأمي التي تمنحني الطمأنينة، كأختي التي تسندني في أوقات ضعفي، وكصديقتي التي أجد في قربها العزاء. لكنها لم تكن الحبيبة التي كنت أبحث عنها في أحلامي.
و في إحدى الأمسيات، ونحن جالسان في شرفة المنزل، ساد بيننا صمت طويل كأننا ننتظر شيئًا لم يأتِ أبدًا. كنت أراقب الطيور وهي تحلق في السماء، وكانت تراقبني كأنها تنتظر مني اعترافًا. و فجأة، سألتني بصوت خافت: “هل تحبني؟”
كان سؤالها كحصاة خفيفة سقطت على بحرٍ من التردد. نظرت إليها طويلًا، ولم أعرف كيف أجيب. كنت أحبها، لكن ليس بالطريقة التي أرادت سماعها. قلت لها في النهاية: “أحبك لكن بطريقتي.”
لم تُجب. فقط ابتسمت ابتسامة خفيفة كأنها تودع شيئًا في داخلها.
منذ ذلك اليوم، أصبحت حياتنا مليئة بالأسئلة الصعبة. أسئلة تطرق على أبواب أرواحنا، لكنها لا تنتظر الإجابات. كانت تسألني: “هل كنت سعيدًا قبل أن نتزوج؟” وكنت أسأل نفسي: “هل يمكن للحب أن يولد بعد كل هذا الوقت؟”
كانت تسألني: “ماذا لو لم نتزوج؟” وكنت أسأل نفسي: “هل الزواج خطوة نحو السعادة، أم مجرد وهم آخر نصنعه بأيدينا؟”
وفي إحدى الليالي، كنت أجلس وحدي في غرفة العصافير، أراقبها وهي تنام بهدوء داخل أقفاصها. تساءلت بصوت عالٍ: “هل الحرية هي السعادة؟ أم أن الحب هو الحرية الحقيقية؟”
سمعت صوتها خلفي، هادئًا لكنه يحمل ثقل العالم: “سؤال صعب. لكن أليس الحب الحقيقي هو الذي يُجيب عن كل الأسئلة؟”
نظرت إليها، ولم أجد ما أقوله. كان سؤالها يشبه مرآة عاكسة، أرى فيها كل التناقضات التي تحملها روحي.
بقينا صامتين، وكان الصمت هو اللغة الوحيدة التي أصبحنا نتقنها.