مصطفى العلوي..جائزة بتوابل حزن وفرح ودروس في مهنة الصحافة
الحدث الافريقي-عبد السلام العزوزي
بكى الإعلامي مصطفى العلوي بحرقة شديدة على رفيقة دربه التي لم يمهلها القدر أن تفرح معه في حفل التتويج بشهادة تقديرية لمساره الإعلامي المتميز والأبرز على مدى نصف قرن، وقد فارقته قبل خمسة أيام فقط، وهي التي كانت السند له في شغفه وعشقه وانشغاله المتواصل بعمله الإعلامي في دار البريهي بإذاعة وتلفزيون الرباط.
تتويج مسار الإذاعي والتلفزيوني مصطفى العلوي وإن تأخر، فإنه.. ها قد أتى.. في لحظة مزجت الحزن بالفرح لديه فلف خوالجه وأحاسيسه التيه، وتبعثرت الكلمات في لسانه، وهو يحاول أن يستجمع من رباطة جأشه كعادته حين يطل على مشاهديه عند كل نشرة مسائية من استوديو الأخبار بالرباط، أو حين يشرع في تسخين برنامجه الشهير “حوار” الذي كان محكا فعليا للعديد من السياسيين الذين كانوا يتحسسون رؤوسهم وهم يلبون دعوة الإعلامي مصطفى العلوي للمشاركة في البرنامج الذي كان يتتبعه المغاربة بشوق كبير.
وحتى يبقى وفيا لرزانته ومسؤوليته حتى في أصعب الظروف، وقد كانت لحظة الإعلان عن وفاة المرحوم الحسن الثاني من طرف الإعلامي مصطفى العلوي من أصعب وأشد قساوة على نفسه، وهو يذرف دموع فراق الشعب المغربي الوفي للملك العبقري الفذ، الذي أبهر صناع القرار الدوليين، مبدع مسيرة القرن (المسيرة الخضراء)، -حتى يبقى وفيا لرزانته- وهو يخاطب نخبة من الصحفيين ولفيف من الشخصيات يتقدمهم وزير الثقافة والشباب والتواصل محمد مهدي بنسعيد و كاتب الدولة لدى وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، المكلف بالإدماج الاجتماعي، عبد الجبار الرشيدي، قرر أن يكتب كلمة التتويج ويقرأها حتى لا تضيع منه المفردات ومغازيها ويبلغ رسالته من خلالها.
وقد كانت كلمته حبلى بالإشارات والدلالات حول التتويج بالجائزة، وحول حبه لوطنه وحبه لجلالة الملك محمد السادس، وشكره للكفاءات ولجلالة الملك بمنحه هذا الجائزة، مؤكدا على مواصلة العمل في السلطة الرابعة،قائلا:”سأظل وفيا لهذه المهنة”، وقد أوصى الصحفيين على مواصلة العمل حتى آخر نفس، “لأن الصحفي لن يتقاعد”، كما قال الإعلامي الأبرز مصطفى العلوي.
وأنا أتابع خطى العلوي وهو يصعد منصة التتويج مساء الجمعة 13 دجنبر الجاري، بالمعلمة الحضارية الأثرية الجميلة “شالة” بالرباط. كانت ذاكرتي تأخذ بتلابيب تفكيري قهقريا إلى منتصف السبعينات (1975)، وأنا أكاد أستأنس بالصف الخامس من التعليم الابتدائي، بعدما نلت جائزة التفوق في الصف لما قبله، بعد افتتاح الموسم الدراسي قبل شهر ونصف في مناخ ممطر قارس، يمارس سطوة قسوته على طراوة وجهي ويداي، وقد تجمد الدم فيهما، وعلى منطقة تازة التي تكسوها بياض الثلوج الجاثمة على جبال الريف من كل الجهات وكأنها تشكل حصنها الحصين من كل دخيل.
في هذه اللحظات العابرة، استحضرت ذاكرتي صوت الإذاعي مصطفى العلوي، والاذاعي الصديق معنينو، والاذاعي محمد بنددوش الذي رحل عنا العام الماضي، وهم ينقلون لنا مسار عبور المغاربة المشاركين في المسيرة الخضراء الذين حجو من كل فج عميق ملبين نداء جلالة الملك الحسن الثاني عبقري زمانه، حتى دخولهم أرض الصحراء حاملين راية الوطن والقرآن العظيم، حيث تم تحرير أقاليمنا الجنوبية من الاستعمار الاسباني بمسيرة سلمية لم يشهد مثلها الزمان.
في هذه اللحظات استشعرت بالصوت الرخيم للإذاعي مصطفى العلوي وهو ينقل أخبار المسيرة عبر المذياع الذي كان رفيق دربي ومعلمي في معرفة ما يحدث من حولي من أحداث بالرغم من حداثة عمري، وبالأخص أحداث المسيرة الخضراء التي كنت مكلفا من طرف أسرتي بنقل أحداثها لهم لمعرفة أحوال من شاركوا من الأسرة في هذه المسيرة المظفرة.
مواصلتي للاستماع للمذياع، إن لم أقل إدماني عليه فيما بعد، وأنا أواصل تعليمي، حفزني على متابعة الأخبار عن طريق الجرائد على قلتها أنذاك، فصرت عاكفا على التهام كل ما ينشر في الصحف المغربية من أخبار، وقد تملكني صوت الإذاعي مصطفى العلوي الذي بدأت بتقليد صوته في البداية، والذي كان جاذبا وقويا وملهما، حتى أني سجلت العديد من وصلات الأخبار في أشرطة شخصية أنذاك. وهو ما أغراني لولوج مهنة الصحافة، وأنا أتابع دراستي الجامعية منتصف الثمانينات من القرن الماضي.
مصطفى العلوي الذي أفصح عن عشقه لنبل مهنة الصحافة في حفل التتويج لنيل الجائزة التقديرية للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة، كان يقدم دون أن يدري دروسا قوية وملهمة في الصحافة وفي دروب عشق هذه المهنة النبيلة على مدى نصف قرن من الزمن بشكل مباشر للصحفيين الذين اشتغلوا معه، وبشكل “افتراضي” غير مسبوق بالنسبة للذين أغرموا بصوته وحضوره الملفت على بلاطو الأخبار باستوديو دار البريهي بالرباط، وهو ما صرح به الإعلامي المغربي البارز عادل الزبير مراسل قناة العربية الذي توج بدوره بجائزة مراسلي الصحافة الأجنبية بالمغرب.
ومعتز أني كنت تلميذا للهرم الإعلامي مصطفى العلوي، دون علمه، فتملكني صوته في محطات من عمري، وإن لم يحالفني الحظ في أن أغازل الميكروفون الإذاعي، إلا لتصريح مقتضب وسريع حول حدث ما.. في زمن ما. وكنت متتبعا لتغطياته للأنشطة الملكية، ومازلت أذكر مما أذكره، تغطيته لزيارة الراحل الملك الحسن الثاني إلى مدينة العيون بصحرائنا الغالية، وهو يدخلها دخولا رسميا، حين قال مصطفى العلوي أنذاك” هاهي ساكنة الصحراء..هاهي ساكنة العيون يا صاحب الجلالة، تقول لكم..لو كانت عيوننا ورودا لفرشناها لك تمشي عليها يا حسن”.
فهنيئا لأستاذي العلوي، بهذا التميز، وبهذا العطاء، وبهذا العشق الذي درسته لنا، وألهمتنا به، فكنت مدرسة متميزة ملهمة للكثير من الصحفيين، وكنت الوطني الكبير، المشبع بحب الأسرة العلوية الشريفة، وما زلت كذلك تصر على مواصلة المسير بروح المسؤولية ونبل أخلاق مهنة الصحافة التي ما أحوجنا إليها الآن في هذا الزمن الذي طغت فيه التفاهة، واستباحت السخافة والرذيلة حرمة ونقاء وسمو “صاحبة الجلالة” في زمن طغت فيه التقنية الرقمية المتطورة، التي أغلقت المؤسسات الصحفية الورقية وأحالتها على قدر الموت الرحيم، ويسرت من وفرة الأخبار للإعلامي الذي وجد نفسه طوع هذه التقنية الحديثة المتجددة برغبة منه أو بدونها.