فقيه مغربي من القرن التاسع عشر يدعو السلطان الحسن الأول إلى الاقتباس من أوربا
صدر عن منشورات بيت الحكمة بتطوان (دجنبر 2024) تحقيق جديد لكتاب تحفة الإمام ونصيحة الإسلام فيما يتوقف عليه الخاص والعام، وهو من تأليف الإخباري المغربي محمد بن مصطفى المشرفي صاحب كتاب الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية، ويعد تحفة الإمام، الذي حققه الباحث خالد طحطح من أهم مؤلفات محمد المشرفي في قضايا الإصلاح بمغرب القرن التاسع عشر، حيث يتناول فيه ضرورة إنجاز الإصلاح العسكري والمالي والقضائي والجبائي، ويقف عند العوائق الداخلية التي ساهمت في إفشال كثير من الإصلاحات.
في هذا النص الفريد والاستثنائي الذي حققه وقدّم له الباحث خالد طحطح بدراسة وافية نجد أنفسنا أمام فقيه مغربي من القرن التاسع عشر يحث السلطان الحسن الأول بصريح العبارات على الأخذ بالمستجدات الحديثة، والاستفادة من الدول الأوروبية في هذا المجال، وإن كانت مخالفة لنا في الملة، ويعدد له المزايا التي سيجنيها البلد إن هو أخذ بالتراتيب الأوروبية، ويتهجم على الفقهاء ممن عارضوا في زمانه الاقتباس من الأجانب، وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب، إذ نقف فيه على بداية تشكل الأفكار التنويرية بمغرب القرن التاسع عشر.
كتاب تحفة الإمام ونصيحة الإسلام استلهم أفكاره بشكل مباشر من كتاب أقوم المسالك لخير الدين التونسي، وسار على منواله، حيث يبدو فيه المشرفي متأثرا بالفكر النهضوي المشرقي، ونقل لنا نص مرسوم كرخانة الذي اعتمد في الدولة العثمانية في باب الإصلاحات، كما اقترح المشرفي في كتابه على السلطان المغربي رؤيته للإصلاح العسكري والمالي والقضائي والإداري، وهو ما يضع هذا الإخباري على رأس رواد النهضة بالمغرب خلال القرن التاسع عشر.
كتاب تحفة الإمام ونصيحة الإسلام يجعلنا نعيد قراءة تاريخ مغرب القرن التاسع عشر، فنحن أمام نص يختلف في منزعه عن باقي ما دونه معاصروه، ويقترب في تصوراته من نظرائه بالمشرق، ففيما طرحه من قضايا وتصورات نجده أقرب الإخباريين المغاربة لخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق، وهو نص لا نجد أي استثمار له في الكتابات التاريخية الأكاديمية، لكونه ظل مغموراً، ولا يزال.
كتاب تحفة الإمام أو “منهاج البشرى وسعادة الدنيا والأخرى” يدعونا لأن نُعيد النظر في فكرة تحفُّظ الفقهاء المغاربة على المستجدات الحديثة، وقد بين الباحث خالد طحطح في قسم الدّراسة أننا أمام نص يُعدِّد المزايا التي سيجنيها البلد من وراء الاقتباس من الدول الأوربية والأسيوية، كما ينتقد الفقهاء الذين ينكرون الاستفادة مما عليه غَيْر المسلمين مِنَ السّيرِ وَالتَّراتِيبِ النافعة، حيث يقول: “فَإِنَّ الأمْر إِذَا كَانَ صادِراً مِنْ غَيْرِنا وَكانَ صَواباً مُوافِقاً لأَدِلَّتِنَا فَلاَ وَجْهَ لِإنْكَاِرِه وَإهْمَالِهِ، بَلِ الوَاجِبُ الحِرْصُ عَلَى اسْتِعْمالِهِ، وَكُلُّ مُتَمَسِّكٍ بِدِيَانَةٍ وَإِنْ كَانَ يَرَى غَيْرَهُ ضَالاَّ في دِيَانَتِهِ فَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُهُ مِنَ الاقْتِداءِ بِهِ فِيما يُسْتَحْسَنُ في نَفْسِهِ من أعْمالِهِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمصالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ كمَا تَفْعَلُهُ الأُمَّةُ الإفْرَنْجِيَّةُ، فَإِنَّهُم ما زَالُوا يَقْتَدونَ بِغَيْرِهِمْ في كُلِّ ما يَرَوْنَهُ حَسَناً مِنْ أعْمالِهِ حَتَّى بَلَغُوا في اسْتِقامَةِ نِظَامِ دُنْياهُم إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَشَأنُ النَّاقِدِ البَصير تَمْيِّيزُ الحَقِّ بِمِسْبارِ النَّظَرِ في الشَّيْءِ المَعْروضِ عَلَيْهِ قَوْلاً كَانَ أوْ فِعْلاً، فَإِنْ وَجَدَهُ صَواباً قَبِلَهُ وَاتَّبَعَهُ، سَواءٌ كانَ صَاحِبهُ مِن أهْلِ الحقِّ أوْ مِن غَيْرِهِم … وَالحِكْمَةُ ضالَّةُ المؤمِنِ يَأْخُذُهَا حَيْثُ وَجَدَهَا”.
يبدو واضحا من خلال متن الكتاب أن المشرفي استقى نصه -بعد تحويره- من كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي (1821-1889) وإن لم يُشر إليه بالاسم، كما أنه استوعب الكثير من أفكار هذا المصلح الرائد، وتبنى الكثير من مواقفه الإصلاحية وكيّفها مع الواقع المغربي. وهذا الكتاب هو خير مثال على شمولية الفكر التحديثي بالمغرب، حيث حاول فيه المشرفي التوفيق بين الأصالة من جانب، والانفتاح من جانب آخر، مشددا على أهمية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية بما ينسجم وملابسات العصر، ومؤكدا على أهمية الأخذ بمعارف الآخر الأوروبي وبأسباب العمران والتقدم والرفاهية.
يسود انطباع لدى الباحثين بكون مغرب القرن التاسع عشر لم يعرف إسهامات تحديثية أو تنويرية على غرار ما عرفته تونس ومصر والشام والدولة العثمانية، وهو انطباع قد يبدو صحيحا إذا حكمنا على المسألة من خلال الكتابات التي ذاع صيتها آنذاك كمؤلفات الكردودي والفلاق، لكن الأمر يختلف حين نقف على مؤلفات أخرى تنتمي إلى نفس الحقبة من قبيل رحلة الصفار ومنهاج البشرى للمشرفي، والابتسام عن دولة ابن هشام لأبي العلاء ادريس، والفتوحات الوهبية للحسين بن عبد الرحمان، ونهاية المقول لعلي بن محمد السوسي. فهذه الكتابات تتميز بنفس تجديدي وبالدعوة للإصلاح بما يتناسب مع التحديات الجديدة القائمة آنذاك.
يختلف منهاج البشرى للمشرفي إلى حد بعيد عن كتابات أقرانه خلال القرن التاسع عشر، لاسيما كتابات الكردودي والفلاق واللجائي وابن عزوز، التي ظلت تقليدية في بنيتها، والتي كانت تستقي معلوماتها من كتابات الآداب السلطانية السابقة دون أن تحمل أية أفكار أو قضايا من راهن القرن التاسع عشر وتحولاته السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والتقنية.
إن كتاب منهاج البشرى أو تحفة الإمام هو نص متميز وفريد من نوعه في مجال الكتابة الإصلاحية بالمغرب خلال القرن التاسع عشر، فقد تناول فيه مؤلفه قضايا الإصلاحات بكثير من الدقة والتفصيل وبرؤية مُغايرة لباقي الفقهاء والكتاب الذين عاصروه، وهو ما يضعه على رأس رواد النهضة بالمغرب خلال القرن التاسع عشر. بيد أن الكتاب مع ذلك لم يكن له أي صدى فعلي، لأنه ظل مجهولا ومغمورا وبعيدا عن الأضواء، ومن ثَم لم يكن له أي تأثير لا في زمن تأليفه ولا في الفترة الموالية له.