الرجل الذي يعيش مع الطيور
” الوحدة تُعلّمك الصدق، لكن العيش بين الناس يُعلّمك كيف تسامح وتُحب “
هل ثمة مكان يبهج النفس ويريح الأعصاب مثل قريتنا هذه؟
لا أعتقد..
إني أعجب لما يدعوني للقلم فالكتابة فن لم أمارسه الا هاويا أو متطفلا وأحيانا في أوقات الفراغ.. لكن قصتنا يجب أن تروى من الألف الى الياء وبكل حروف الهجاء.
يقول الراوي:
“لا شيء يدعو للتفاؤل، هكذا يقولون، وهكذا عاش أحمد. كان ذلك القروي الطيب، أو بالأحرى “الأحمق” الذي يوزع الابتسامات كأنه بائع للورد في سوق فارغ. كان يرى الخير في كل قلب، والصدق في كل وجه، ويظن أن الحياة علبة من حلوى أعياد الميلاد. بسطاء أمثال أحمد لا يكتشفون الحقيقة إلا بعد أن تكون الشمس قد احترقت فوق رؤوسهم، وحينها، يكون الوقت قد فات على التذمر.
في صبيحة يوم قائظ، عندما كان العرق ينساب من جبين الأرض نفسها، وقف ثلاثة رجال أمام منزله البسيط. قال أحدهم، بوجه كالح كأنه خرج للتو من فرن الطين:
“يا أحمد، تعال معنا. سنبني بيتًا لأحد أعيان القرى المجاورة، وأنت رجلنا المناسب. الأجر مضمون.”
الأجر مضمون! كيف لا يصدق أحمد؟ في قاموسه الشخصي، الوعود لا تخرق، والكلمات تُسطر في سجلات السماء. لملم أدواته وانطلق، مثل جندي في معركة لا يعرف ميدانها. تحت الشمس، عمل أحمد كأنه يمسح كفارة ذنوب لم يرتكبها. حمل الصخور بيديه حتى تمزق منهما الجلد، ورفع الطين على كتفيه حتى تيبست عظامه.
وفي النهاية، كانت المكافأة: لا شيء.
قالها أحدهم ببرود كأنه يصف حالة الطقس: “يا أحمد، لم نعدك بشيء.”
نظر أحمد إليهم بعيون جافة من الدهشة: “لكنكم وعدتم… أنتم قلتم الأجر مضمون!”
ضحكوا. قهقهوا كأنهم يسمعون نكتة غبية من طفل صغير، وتركوه يجر أذيال خيبته.
عاد أحمد إلى بيته بوجه صار أقرب إلى وجه تمثال عاجز عن التعبير. أغلق الباب على نفسه، وراح يحدث جدرانه المهترئة: “لماذا يغدر الإنسان بأخيه الإنسان؟ أهذا هو العالم الذي خلقه الله؟”
وحين أهل الصبح، قرر أحمد الرحيل. ترك القرية بما فيها ومن فيها، فرَّ هاربًا إلى الجبال، كمن يهرب من عقله قبل أن يهرب من الناس.
في الجبل، كان المشهد مختلفًا تمامًا. لا أكاذيب، و لا وعود، ولا وجوه مشكوك في نواياها. فقط الريح تعوي بلا انقطاع، والطيور تحلق بلا قيد ولا شرط. بنى كوخًا صغيرًا من بقايا الحياة: بعض أغصان هنا، وحجارة هناك. جلس أحمد أمام كوخه، ينظر إلى الفراغ بلا سبب، كأنه ينتظر شيئًا لن يأتي.
و فجأة حطت أمامه حمامة. بيضاء كحكاية لم يلوثها الزمن، وقفت على حجر قريب، ونظرت إليه نظرة لا تخلو من السخرية: “أجئت تبحث عن الوحدة هنا؟”
رد عليها أحمد قائلا: ” هل تطبعت بخصال البشر و تعلمت منهم السخرية ؟”
لكن الحمامة لم ترحل. بل بقيت هناك، وكأنها قررت أن تكون رفيقته في هذه المأساة الكونية. وبمرور الأيام، جاء اليه المزيد من الطيور: عصافير خفيفة كأنها أرواح تائهة، حمامات تجلس فوق كوخه كما لو أنه شجرة كبيرة، حتى النسور كانت تمر لتحييه بنظراتها المخيفة.
وهنا، عرف أحمد الحقيقة الكبرى: الطيور أوفى من البشر. لم تسأله عن ماضيه، ولم تضحك على دموعه، ولم تعده بشيء ثم تنكث به. و في صباحاته الصامتة، كان يحدثها قائلاً: “أنتم أحرار وصادقون. أما نحن البشر، فقد كتب علينا أن نكذب ونخون ونؤذي بعضنا البعض. ليتني كنت مثلكم.”
مرت الأيام والسنوات، والأرض تدور بلا مبالاة. و لم يعد يشعر أحمد بالوقت. كان يعيش كما يعيش الحجر، بلا طموح وبلا خيبة للأمل و كأنه فقد الرغبة في أن يكون شيئًا أكثر من رجل يجلس مع الطيور.
لكن الحقيقة أن الوحدة ليست صديقة لأحد. تأتيك في الليل، تُذكّرك بصوت أهلك الذين رحلوا، بضحكة لم تعد تسمعها، وبأحلام تحطمت كمرآة قديمة. أحيانًا، كان أحمد يغمض عينيه ويتساءل: “هل كان القرار صائبًا؟ هل كان البشر جميعهم كاذبين أم أنني كنت غبيًا بما يكفي لأصدقهم؟”
وفي إحدى الليالي، حين كانت النار تهمد أمامه، سمع صوت خطوات على الحصى. رفع رأسه ببطء كأنما يخرج من قبر، فرأى رجلاً عجوزًا، يقترب منه كأنه ظلّه القديم الذي عاد ليطارده. قال الرجل بصوت يشبه الريح:
“أأنت أحمد؟”
رد عليه أحمد ببرود كأنما لا يكترث:
“كان هذا اسمي يومًا، أما الآن فأنا مجرد رجل يعيش مع الطيور.”
جلس الرجل، وأخرج خبزًا يابسًا، وبدأ يأكل بصمت طويل. كان أحمد ينظر إليه بدهشة لم يُظهرها: “هل أتى هذا الرجل ليذكّرني بالعالم الذي هربت منه؟”
جلس الزائر العجوز أمام أحمد كأنه تمثالٌ بائس من بقايا القرون الغابرة. كان يأكل خبزه القديم بهدوء تام، كأنه يحاول أن يستهلك الوقت كما يستهلك فتات الخبز. نظر أحمد إليه بشيء من الفضول الذي تآكل مع الأيام، ثم قال بصوت ساخر قتلته الوحدة الطويلة:
“ماذا جاء بك إلى هنا؟ هل أتيت لتخبرني أن البشر أصبحوا ملائكة؟ أم أنهم على الأقل تخلوا عن هوايتهم الأثيرة و هي البهتان و الكذب؟ “
رفع الرجل رأسه ونظر إلى أحمد نظرة طويلة، لم تحمل سوى الشفقة الصامتة، ثم قال:
“لقد تغيّرت القرية يا أحمد. الناس ليسوا كما تركتهم. كنا نحنُ أيضًا تائهين، لكن الزمن غيّرنا… وجئتك اليوم لتعود معي الى القرية.”
ضحك أحمد تلك الضحكة التي تشبه صرخة ألم، وقال:
“الزمن غيّركم؟! ألا يغيّر الزمن سوى الوجوه؟ أليس الزمن هو الحفّار الأمين للذكريات المؤلمة فقط؟ كم مرةً كذبتم على أنفسكم حتى صدّقتم أنكم تغيرتم؟”
صمت الرجل العجوز، ثم تنهد تنهيدة العاجز الذي يعرف أن الجدال مع أحمد يشبه محاولة ملء البحر بالدلاء الصغيرة، وقال بنبرة هادئة:
“نحن نحاول يا أحمد… الإنسان ليس ملاكًا، لكنه يحاول. نحن نتغير، نتوب، نعود إلى الله، ونحاول أن نُصلح ما أفسدناه. لقد سمعت قصتك التي أصبحت أسطورة في القرية. يتناقلونها كما يتناقل الأطفال حكايات ما قبل النوم، ويقولون: أحمد، الرجل الذي عاش مع الطيور. لكن ألم تتساءل يومًا، هل يستحقون فرصة أخرى؟”
نظر أحمد إلى النار التي كانت تلتهب بصعوبة أمامه، كأنها تحتضر هي الأخرى، ثم قال:
“لماذا أعود؟ كي أرى من جديد ما يثير الغثيان في نفسي؟ البشر يشبهون الزجاج المكسور. مهما حاولت أن تُصلحهم، ستجد نفسك مجروحًا. وحدها الطيور كانت صادقة معي؛ لم تعدني بشيء ولم تكذب عليّ.”
نظر الزائر إلى الطيور التي بدأت تتجمع حول أحمد كأنها تستعد للدفاع عنه، ثم قال بصوت شجيّ:
“لكن الطيور يا أحمد، مهما حلّقت في السماء، ستعود في نهاية اليوم إلى الأرض. حتى الحرية التي تتغنى بها ليست كاملة؛ الإنسان خُلق ليعيش مع الناس، ليشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ليكون جزءًا من الوجود. الفرار من الحياة ليس حلًا، لكنه مجرد استراحة مؤقتة قبل العودة.”
تسلل الصمت كأنه لصٌ محترف، و تسلّق جدران الحوار بين الرجلين. كان أحمد ينظر إلى الطيور نظرة الواثق بأنها ستختار البقاء معه، بينما كان الزائر ينظر إلى أحمد نظرة مَن يعرف أن الجبل لا يستطيع أن يحتجز الإنسان إلى الأبد.
قال أحمد بعد فترة طويلة من التفكير:
“لماذا جئت إليّ بعد سبعين عامًا؟ ماذا ستفعلون برجل مثلي؟”
ابتسم الرجل العجوز ابتسامة كادت تسقط من وجهه من ثقل الزمن، وقال:
“جئتك لأننا نحتاج حكمتك، وصبرك الذي لا نعرف كيف عشت به. القرية تحتاجك يا أحمد، ولا أظنك ستخذلها. كل ما أطلبه منك أن تمنح البشر فرصة أخرى. لا أحد كامل، لكننا نحاول أن نكون أفضل، أليس هذا كافيا ؟”
رفع أحمد رأسه إلى السماء، حيث كانت النجوم قد بدأت تتناثر كحبات الملح على صفحة الليل السوداء. شعر أن كلمات الرجل كانت تحاول حفر فجوة في الجدار الذي بناه حول قلبه طوال سبعين عامًا. التفت إلى الطيور وقال بصوت خافت كأنه يحدث نفسه:
“حتى الطيور لا تريدني أن أرحل… ألا ترونها كيف تزقزق بقلق؟”
قال الرجل العجوز بحزم هذه المرة:
“إنهم يحبونك لأنك عشت معهم بصدق. لكن ألا تعتقد أن البشر أيضًا يستحقون فرصة أخرى؟ ألم يخلقنا الله لنعفو ونسامح؟”
هنا، شعر أحمد بشيء غريب. كأن تلك الكلمات استحالت سهامًا أصاب قلبه المتيبّس. مرت أمام عينيه صور الماضي: صورته وهو شاب يثق بكل من يقابله، صورته وهو يحمل الصخور تحت الشمس بفرح كأنه يؤدي فريضة، وصورته وهو ينهار تحت خيانة الأصدقاء. كان كل شيء يعود إليه الآن، دفعة واحدة، كأن ماضيه كله كان يقف أمامه ويحاول أن يطالبه بالصفح.
رفع يده إلى السماء، وقال بصوت يملؤه الحنين والخذلان في آن واحد:
“يا رب، هل كتبت عليّ أن أعود إليهم بعدما اعتدت على الجبال والطيور؟”
أجابه الرجل بصوت خاشع، وكأنه يرد على سؤال أكبر من الزمن نفسه:
“وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.”
كانت تلك اللحظة حاسمة. شيء ما في داخل أحمد انهار كالسد القديم، فاندفعت الذكريات والدموع معًا. كان يعرف أنه لن يكون كما كان، لكنه بدأ يُدرك أن هروبه الطويل ربما كان مجرد وهم.
قال بصوت خافت، يكاد يكون اعترافًا:
“سأفكر… لكني لا أعدك بشيء. إن غدًا لناظره قريب.”
جلس أحمد وحيدًا في الليلة الأخيرة، يتأمل النار وهي تتراقص أمامه كأنها تهمس له شيئًا. كانت الطيور قد نامت حوله في صمت، وكأنها تعطيه مساحة للتفكير، لقرار طال تأجيله سبعين عامًا. أما السماء، فقد كانت تلمع بالنجوم في عتمة الليل كعيون تراقبه، تترقب ماذا سيختار الرجل الذي عاش بين الجبال وحيدًا… بعيدًا عن البشر.
همس لنفسه وهو يتأمل الجبل:
“هل حقًا يمكن للبشر أن يتغيّروا؟ أم أنهم يغيّرون ثيابهم فقط بينما القلوب تبقى كما هي؟”
ثم أطلق تنهيدة طويلة تحمل في طياتها شكوك الوحدة وقسوتها. نظر إلى الطيور من حوله وقال بصوت مرتجف:
“أنتم لم تخذلوني أبدًا… ماذا سيحدث لو خذلوني هم مرة أخرى؟”
لكن الطيور، رغم أمانتها الطويلة، لم تجبه. كان عليها أن تحلق في السماء غدًا كما تفعل كل يوم، أما هو، فقد بات مُطالَبًا بأن يحلق نحو أرض أخرى، نحو القرية التي تركها، نحو الماضي الذي لا زال يطارده.
مع شروق الشمس، حمل أحمد أمتعته القليلة: ثلاث خبزات، جرة زيت، وكوز عسل. مدّ يده إلى عصاه الخشبية، التي أصبحت وكأنها رفيقته الوحيدة في رحلة عمره، ثم رمى على كوخه نظرة الوداع. كان الكوخ صغيرًا، متواضعًا، لكنه كان شاهدًا على سنوات من الوحدة والسكينة التي لا يجرؤ أحد على اختراقها. مرّر يده على جدرانه المتهالكة وقال:
“وداعًا يا بيتي… إن ضاق بي الحال مع البشر، سأعود إليك.”
وقف للحظة ينظر إلى الطيور التي تجمّعت حوله في مشهد غريب، كأنها تعترض على قراره. قال لها مبتسمًا:
“لا تقلقوا… سأعود إذا كان البشر كما تركتهم. لن أتخلى عنكم أبدًا.”
لكنّ صوت الطيور بدا حزينًا في أذنيه، وكأنها كانت تعلم أنها لن ترى وجهه مرة أخرى.
كان الطريق إلى القرية وعرًا كما تركه، لكنه سار فيه بخطوات هادئة، كمن يسير في ممر زمني يعيد تشكيل ذكرياته. كل خطوة كانت تُلقي في وجهه ذكرى قديمة، ضحكة طُويت في صفحات الماضي، أو خيانة ظلت تنخر في قلبه حتى صار هشًا كقلب عصفور صغير. لكن رغم ذلك، مضى في طريقه دون تردد، فقد بات يشعر أن هذا القرار لم يعد قراره وحده، بل قدرٌ كُتب عليه أن يواجهه.
وعندما اقترب من القرية، بدا المشهد كأنه حلم قديم يراوده: الأطفال يلعبون على أطراف الحقول، النسوة ينظفن الساحات، وأدخنة الأفران تتصاعد في السماء. كان كل شيء كما تركه… لكنه كان مختلفًا. لم يعرف كيف، لكن هذا الاختلاف كان كفيلاً بأن يُلقي ببذرة الأمل في قلبه المتحجر.
في مدخل القرية، كان الناس قد تجمعوا، كبارًا وصغارًا، يتطلعون إلى الرجل الذي أتى من الجبل، كأنما هو أسطورة تمشي على قدمين. اقترب أحد الشبان وسأله بلهفة:
“أأنت أحمد… الرجل الذي عاش مع الطيور؟”
أومأ أحمد برأسه بهدوء. لم يُجب، لكنه كان يشعر أن الإجابة غير مهمة. كانت العيون من حوله تتأمل تفاصيله: اللحية البيضاء، العصا الخشبية، والوجه الذي رسمت فيه السنوات كل خطوطها القاسية. كان شيخ القرية بينهم، وهو نفسه قد صار عجوزًا مثله. تقدم الشيخ ببطء، وقال بصوت يشبه الريح:
“يا أحمد… ظننا أنك لن تعود أبدًا.”
ابتسم أحمد ابتسامة جافة وقال:
“ولا زلتُ أظن أن عودتي مغامرة لا تُحمد عقباها.”
ضحك الشيخ بخفة وقال:
“المغامرة هي الحياة نفسها يا أحمد. الحياة بين الناس، مهما كانت صعبة، تظل أهون من الوحدة. كلنا أخطأنا، وكلنا تعلمنا… ألن تغفر لنا؟”
هنا، شعر أحمد بشيء يضغط على قلبه. كأن الجبل الذي عاش فيه قد أصبح حجرًا جاثمًا فوق صدره. قال بصوت متردد:
“هل يمكن للبشر أن يتسامحوا بعد كل هذا الألم؟ هل يمكن للثقة أن تُبنى من جديد؟”
ردّ الشيخ بحكمة تليق برجل عاش مثل أحمد:
“الله يغفر لنا إذا تبنا. فلماذا لا نغفر نحن لبعضنا؟ البشر ليسوا ملائكة يا أحمد، لكننا نحاول أن نكون أفضل… أليس هذا كافيًا؟”
رفع أحمد بصره إلى السماء، حيث كانت الطيور تحلق فوقه في دوائر واسعة كأنها تراقب المشهد. شعر بدمعة ساخنة تتسلل من عينه، دمعة خجولة لم تعرف طريقها منذ عقود. قال بصوت خاشع، كمن يعترف لنفسه قبل الآخرين:
“وَالَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.”
في تلك اللحظة، شعر أحمد أن قلبه القديم قد بدأ ينبض من جديد. تلك الجدران التي بناها حول روحه بدأت تتصدع، شيئًا فشيئًا، تحت تأثير كلمات الشيخ ونظرات الناس الصادقة. لقد عاد إلى البشر، لكنه كان يشعر أنه عاد إلى نفسه أيضًا.
بعد أيام من عودته، أصبح أحمد جزءًا من القرية من جديد. كانوا يلقبونه بـ”حكيم القرية”، وكان الأطفال يجلسون حوله كل مساء ليستمعوا إلى حكاياته عن الجبال والطيور. أما الشبان، فقد أصبحوا يأتون إليه لطلب النصيحة، كأنه عرّاف الزمن الذي يعرف كل شيء.
وفي صباح كل يوم، كان يقف على أطراف القرية، ينظر إلى الجبل البعيد ويقول بصوت يسمعه وحده:
“لم أنسكم يا أصدقائي… علمتموني الصدق، لكنني سأُعلّم البشر كيف يُسامحون.”
وعندما وافته المنية وهو ابن المائة عام، دفنه أهل القرية عند سفح الجبل، حيث يمكن للطيور أن تزوره كل صباح، لتُلقي عليه تحية الوفاء الخالد المتجدد. “