أفريقيا تنتفض: نهاية الهيمنة الفرنسية+ فيديو
في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين فرنسا والدول الأفريقية تحولًا عميقًا ومؤثرًا، حيث أصبح من الواضح أن نفوذ فرنسا في القارة السمراء آخذ في التراجع. يعتبر هذا التحول انعكاسًا لعدة عوامل داخلية وخارجية، ويمثل نقطة مفصلية في تاريخ العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في أفريقيا. الطرد المتزايد للقوات الفرنسية من بعض الدول الأفريقية يعد من أبرز مظاهر هذا التحول، حيث شهدت المنطقة احتجاجات واسعة وتغييرات سياسية دفعت العديد من الحكومات إلى إعادة تقييم علاقاتها العسكرية والسياسية مع فرنسا.
1. خلفية تاريخية لعلاقة فرنسا بأفريقيا
علاقة فرنسا بالقارة الأفريقية قديمة ومعقدة، تعود جذورها إلى فترة الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر. سيطرت فرنسا على العديد من الدول الأفريقية، بما في ذلك دول في غرب ووسط أفريقيا مثل السنغال ومالي وتشاد والكاميرون، فضلاً عن مستعمرات في شمال أفريقيا مثل الجزائر وتونس. بعد الاستقلالات التي شهدتها معظم الدول الأفريقية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حافظت فرنسا على نفوذها من خلال سياسة “فرانكافريك” التي تمثلت في شبكة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
سياسة “فرانكافريك” كانت تهدف إلى تعزيز علاقات فرنسا مع مستعمراتها السابقة عبر التعاون الوثيق في العديد من المجالات، أبرزها المجال العسكري. احتفظت فرنسا بوجود عسكري دائم في العديد من الدول الأفريقية، حيث كانت القوات الفرنسية تعتبر أداة لحماية مصالح باريس، سواء من خلال مكافحة التهديدات الإرهابية أو الحفاظ على الاستقرار في دول كانت تواجه تهديدات من حركات تمردية أو تطورات سياسية غير مستقرة.
2. التحولات السياسية في أفريقيا وأسباب الطرد
في السنوات الأخيرة، شهدت أفريقيا تحولات كبيرة على المستويين السياسي والاجتماعي. بعض هذه التحولات يمكن أن يكون قد بدأ في وقت مبكر من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث بدأت بعض الحكومات الأفريقية تنتهج سياسات جديدة تهدف إلى تعزيز سيادتها والاستقلالية عن القوى الاستعمارية السابقة. على الرغم من أن العلاقات الفرنسية مع بعض الدول الأفريقية كانت مستمرة، إلا أن الشعور العام بأن هذه العلاقات لم تكن عادلة أو لم تحقق فائدة للشعوب الأفريقية بدأ في الانتشار.
العديد من الحكومات الأفريقية، خاصة تلك التي وصلت إلى السلطة من خلال انقلابات عسكرية، بدأت تروج لفكرة أن الوجود العسكري الفرنسي لم يعد مرغوبًا فيه. فقد اعتبرت هذه الحكومات أن التدخلات الفرنسية تسببت في المزيد من الاستقرار بدلاً من تعزيز الأمن. كما كانت العمليات العسكرية الفرنسية، مثل عملية “برخان” في منطقة الساحل، تواجه انتقادات لعدم قدرتها على إنهاء التهديدات الإرهابية في المنطقة. هذه العمليات، التي بدأت عام 2014 في مالي واستهدفت محاربة الجماعات الإرهابية في الساحل، لم تحقق النجاح المتوقع، بل أثارت مشاعر العداء ضد القوات الفرنسية من قبل العديد من المواطنين المحليين.
3. دور الوجود العسكري الفرنسي في غرب أفريقيا
كانت فرنسا تحتفظ بوجود عسكري كبير في العديد من دول غرب أفريقيا، بما في ذلك مالي، النيجر، بوركينا فاسو، وتشاد. في هذه الدول، كانت القوات الفرنسية تشارك في عمليات مكافحة الإرهاب، وكان وجودها العسكري يعد بمثابة ضمانة للاستقرار، خاصة في مواجهة التهديدات المتزايدة من قبل جماعات متطرفة مرتبطة بتنظيمات مثل القاعدة وداعش. لكن مع مرور الوقت، أصبح هذا الوجود العسكري محل تساؤل.
في عام 2020، حدثت سلسلة من الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل، حيث أطاح العسكريون بالحكومات المنتخبة في مالي، بوركينا فاسو، والنيجر. وقد رافق هذه الانقلابات موجة من مشاعر معادية لفرنسا، حيث اعتبر العديد من المواطنين أن الوجود العسكري الفرنسي أصبح عبئًا بدلاً من أن يكون حلاً. هذه المشاعر تضخمت نتيجة لتزايد الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة العديد من المدنيين، مما دفع بعض الحكومات إلى اتخاذ خطوات حاسمة لطرد القوات الفرنسية.
4. طرد القوات الفرنسية: حالات ودوافع
أحد أبرز الأمثلة على طرد القوات الفرنسية كان في مالي. في عام 2022، بعد انقلاب عسكري في مالي، أعلنت الحكومة الانتقالية الجديدة في البلاد أنها ستنهي التعاون العسكري مع فرنسا، بما في ذلك طرد القوات الفرنسية من أراضيها. وقد كانت هذه الخطوة مدفوعة بعدة عوامل، أبرزها الشعور العام بعدم فعالية العمليات العسكرية الفرنسية في مواجهة الجماعات الإرهابية.
تبع ذلك تطورات مماثلة في بوركينا فاسو، حيث استجابة لمشاعر معادية للفرنسيين، قررت الحكومة الجديدة طرد القوات الفرنسية، وأغلقت القواعد العسكرية الفرنسية في البلاد. في النيجر، حدث نفس الأمر بعد انقلاب عسكري في يوليو 2023، حيث أعلن القادة العسكريون عن إلغاء الاتفاقيات الدفاعية مع فرنسا، وطرد القوات الفرنسية من الأراضي النيجيرية.
5. الأسباب الاقتصادية والجيوسياسية
إن الطرد المتزايد للقوات الفرنسية من دول غرب أفريقيا له أيضًا أبعاد اقتصادية وجيوسياسية. من ناحية، تعاني فرنسا من تراجع نفوذها في القارة الأفريقية بسبب صعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا. في حين أن فرنسا كانت تستفيد من عقود تعدين وإنتاج النفط في بعض الدول الأفريقية، إلا أن هذه المصالح أصبحت مهددة من قبل القوى الجديدة التي تقدم عرضًا بديلاً لتطوير هذه الدول.
روسيا، على سبيل المثال، أظهرت اهتمامًا متزايدًا في أفريقيا، وخاصة من خلال الدعم العسكري والسياسي لبعض الحكومات المعادية للوجود الفرنسي. تستخدم روسيا الشركات العسكرية الخاصة مثل “فاغنر” لتعزيز نفوذها العسكري في العديد من الدول الأفريقية، بما في ذلك في منطقة الساحل. من ناحية أخرى، تسعى الصين لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع القارة الأفريقية من خلال مبادرات مثل “الحزام والطريق”، مما يساهم في إضعاف الهيمنة الغربية، بما في ذلك الفرنسية.
6. التحديات المستقبلية: ماذا بعد طرد فرنسا؟
إثر الطرد المتزايد للقوات الفرنسية من بعض الدول الأفريقية، سيواجه الوضع الأمني في المنطقة تحديات كبيرة. قد لا تكون الجماعات الإرهابية قد تم القضاء عليها، وقد يخلق غياب القوات الفرنسية فراغًا أمنيًا يصعب ملؤه. على الرغم من أن بعض الحكومات الأفريقية قد تعتقد أن روسيا أو الصين يمكنهما تقديم الدعم العسكري والاقتصادي، إلا أن هذه القوى لا تمتلك نفس الخبرة في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
أيضًا، يبقى أن نرى كيف ستؤثر هذه التحولات في السياسة الداخلية للدول الأفريقية، حيث سيحتاج القادة الجدد إلى ضمان الأمن والاستقرار في بلدانهم من خلال بناء قدراتهم العسكرية المحلية أو عبر التعاون مع حلفاء آخرين.
إن طرد فرنسا من أفريقيا ليس مجرد حدث عابر، بل هو جزء من تحول أوسع في العلاقات الدولية في القارة. هذا التغيير يشير إلى أن العديد من الدول الأفريقية بدأت في البحث عن هوية سياسية وعسكرية مستقلة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية، بما في ذلك تلك التي كانت تأتي من القوى الاستعمارية السابقة. بينما تستمر القوى الدولية الكبرى في سعيها للتأثير في المنطقة، تبقى القارة الأفريقية أمام تحدي بناء مستقبلها الخاص بعيدًا عن الهيمنة التاريخية، مع السعي إلى الأمن والاستقرار من خلال التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف.