الآفاق الجديدة للغة العربية..الأصول والامتدادات
هذه الورقة مشروع رؤيا تركيبية لواقع اللغة العربية منذ النشأة الى التطور والامتداد،راعيت فيها استحضار كل القراءات الممكنة لها،والافاق الجديدة التي تنتظرها.
لقرون طويلة ظلت اللغة العربية خطابا متعدد الرؤى،مختلف المقاصد،خصب الدلالات،متنوع الايقاعات،غزير المعاني،حمال عدة أوجه،فكانت حصيلة هذا التميز الإقرار بقدسية هذه اللغة، لأنها لغة القرآن،ولغة النبوة والإعجاز والتحدي،فكانت الفصاحةوالبلاغة من مظاهر انسجامها،وسحر بيانها،وكان جمعها للمؤتلف والمختلف من دقيق اللفظ،وتعدد المعنى من مظاهر قوتها،واتساق أصولها وفروعها.
وأمام دهشة قريش وباقي القبائل في الجزيرة العربية من (تميم وطيء وبكر وعبس وتغلب وجرهم وربيعة ونمر ويشكر) الماسكة بزمام هذه اللغة،أن تدخل في تحد وصراع أمام لغة القرآن،فأرسلت عرابها، ومركز ثقتها الوليد بن المغيرة، ليختبر لغته،فلما سمع القرآن قال له: إن له لحلاوة،وإن عليه لطلاوة،وإنه لمثمر أعلاه،مغدق أسفله،وإنه ليحطم ماتحته،وإنه ليعلو وممايعلى عليه”
لم تتسبب اللغة العربية الإحراج فقط على دهاقنة قريش،بل امتد تأثيرها إلى الصحابة أنفسهم،خصوصا عندما عجزوا عن تفسير بعض الكلمات في القرآن الكريم، كـ ( فاكهة أبا – لاتحن مناص ـ حمر مستنفرة وغيرها من ألفاظ القرآن الكريم).
ويعتبر القرن الثاني الهجري، أول حقبة تاريخية تعايشت فيها اللغة العربية مع الإشكالات الكبرى لعلماء الكلام، ( القدرية الاولى والثانية والمعتزلة والأشاعرة، في قضايا فكرية ودينية ولغوية، ( العقل والنقل ،ومرتكب الكبيرة،والتوحيد والعدل والمنزلة بين المزلتين ونفي رؤية الله يوم القيامة،ونفي الكلام الإلاهي،والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر ) ومن روادهم”واصل بن عطاء،وعمرو بن عبيد،وابراهيم النظام ،وهشام بن عمرو الفوطي،والزمخشري صاحب تفسير الكشاف،والجاحظ،والخليفة المأمون،والقاضي عبدالجبار…)
ومن أهم ماكتب في هذا القرن كتاب” مجاز القرآن” لأبي عبيدة،وقد جمع فيه صاحبه كل مناحي القوة في لغة القرآن الكريم ،والفقه بالعربية وأساليبها واستعمالاتها ،والنفاذ إلى خصائص التعبير فيها.ويعتبر هذا الكتاب من أهم الكثب التي راهنت على تسليط الضوء على الخطاب البلاغي، في قوة لاستعارة والمجاز وغيرها.
وأعتقد أن الدراسات المهتمة بالتراث البلاغي والنقدي القديم، لم تفصل في تحليلها لمثل هؤلاء الأعلام وكتابتهم،ولعمري إن “مجاز القرآن”، يعتبر مدخلا أساسيا في فهم اللغة العربية انطلاقا من زاوية بلاغية محضة اتخذت من النص القرآني مجالا معرفيا يتسع لفهم اللغة الغربية وإبراز مكامن القوة فيها.
يقول أبوعبيدة المثنى: ” ومن المحتمل من مجاز مااختصر وفيه مضمر،قال: “وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا” ( 38/6 ) فهذل مختصر فيه ضمير مجازه:” وانطلق الملأ منهم”، ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه: وتواصوا أن امشوا أو تنادوا أن امشوا أو نحو ذلك، وفي آية أخرى” ماذا أراد الله بهذا مثلا”(2/26)،فهذا من قول الكفار،ثم اختصر إلى قول الله،وأضمر فيه قل يامحمد: “يضل به كثيرا”(2/26)،فهذا من كلام الله.ومن مجاز ماحذف وفيه مضمر،قال:” وسل القرية التي منا فيها والعير التي أقبلنا فيها”(12/82)،فهذا محذوف فيه ضمير مجازه: وسل أهل القرية، ومن في العير” ( [1] ).
ويقول أيضا:ومن مجاز المكرر للتوكيد قال: “رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين”(12/4)،أعاد الرؤية.وقال:” أولى لك فأولى” (74/34 ،35 )،أعاد اللفظ ،وقال:” فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة” (2/196). وقال: تبت يد أبي لهب وتب” 111/1). ( [2] ).
ولم يقف أبو عبيدة المثنى عند هذا الحد بل تحدث عن” مجاز مايحول خبره إلى شيء من سببه “و” ومن مجاز الأدوات اللواتي لهن معان في مواضع شتى،فتجيء الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك المعاني” .
وكان الشاهد عند معمر بن المثنى هو الشعر الجاهلي والقرآن الكريم وأخبار الرواة الثقاة ممن يشهد له بالفصاحة والبلاغة من أهل القبائل العربية الفصيحة ك ( تغلب وهذيل وتميم ) وكذا أعلام النحويين وجماع الشعر ودهاقنة اللغة كأبي بكر السجستاني وأبي عبيدة وحماد بن زيد وغيرهم.
لقد ظلت التعريفات للغة العربية حبيسة تصورات استشراقية،وأخرى عربية،وثالثة لم تتجاوز وظيفة هذه اللغة،والوقوف على معجمها وتركيبها ودلالتها،وتوجه آخر ذو نزعة استعمارية فرنكفونية.
فالخطاب الاستشراقي منذ تشكله في أوروبا،ظل حبيس حملة مناهضة للغة العربية وعلى رأسهم المستشرق “رينان”(*) الذي اعتبر اللغة الآرية والجنس الآري من أرقى الشعوب وأطهرها،وهي نزعة عرقية إثنية،تعتبر العربي عاجزا عن فهم نفسه،وأن تراثنا محتاج لمن يحلله ويفككه.
يقول إدوارد سعيد متحدثا عن موقف أحد المستشرقين من اللغة العربية،”كان ساسي أذكى من أن يتجاهل تقديم الحجج التي تدعم آراءه وأعماله،فكان، أولا،يوضح دائما سبب استعصاء تقبل الأوروبي” للشرق” في ذاته،قائلا إن ذوق الأوروبي لن يتقبله ولن يتقبل ذكاؤه،وكان”ساسي” يدفع عن فائدة وأهمية الشعر تحويلا صحيحا حتى يقدره الجمهور الأوروبي،وكانت أسبابه تقوم على أسس معرفية بصفة عامة،ولكنها كانت تتضمن أيضا تبرير المستشرق لعمله،فهو يقول إن الذين كتبوا الشعر العربي أناس يتسمون بغرابة مطلقة (في عيون الأوربيين) وفي ظروف مناخية واجتماعية، وتاريخية تختلف اختلافا شاسعا عما يعرفه الأوروبي”( [3] )
الملاحظ أن موقف “ساسي” لايختلف عن موقف “ارنست رينان”،وكان هذا الأخير “عندما يريد أن يقول شىئا عن اليهود أو المسلمين مثلا و انتقاداته القاسية إلى أبعد حد للجنس السامي كما يراه(ومن تم فقد كانت اللغات السامية باعتبارها فرعا من فروع الشرق،لاتصل الى مرتبة الكائن الطبيعي – كموع من أنواع القرود مثلا- ولاتعتبر كائنا غير طبيعي أو كائنا إلهيا) ص 236 .كما أن دراسة”رينان” للغات السامية كان المقصود بها المساهمة في تطور علم اللغة الخاص باللغات الهندية الأوروبية وفي التفريق بين ضروب الاستشراق.”كان يرى أن اللغات السامية تمثل شكلا منحطا بالقياس الى تطور اللغات الهندية الأوروبية.وكان يقصد الانحطاط الأخلاقي والبيولوجي،وأما بالنسبة لضروب الاستشراق فكانت اللغات السامية تمثل له شكلا ثابتا ــ إن لم يكن الشكل الثابت للانحلال الثقافي ويعطي الامتياز ” للغة الهندية الأروبية والثقافة الأوروبية” ( [4] ).
يقول رينان:”يرى المرء أن الجنس السامي يبدو لنا جنسا ناقصا في كل شيء،بسبب بساطته،وإذا جرؤت على استخدام هذا التشبيه قلت إنه بالمقارنة بالأسرة الهندية الأوروبية،يشبه مقارنة الرسم بالقلم الرصاص باللوحة الزيتية،أي أنه يفتقر الى التنوع،والى الرحابة وإلى الثراء،وهي الصفات اللزمة للكمال”( [5] ) .
من خلال ماسبق،يؤكد رينان في أكثر من محطة، أن اللغة السامية لاترقى لباقي اللغات الأخرى الأوروبية والهندية،
لم تقف الغة العربية عند قدسية لقرآن الكريم،بل تجاوزته إلى آفاق أكبر لاستشراف المستقبل،من خلال مواقف مشتركة جمعت بين اللغويين، وفقهاء اللغة،وحفاظ الشعر،
ومدوني غريب الشعر،ومؤسسي علم العروض،وجامعي الأمثال والشذرات والحكم،فكان لهذا الحرص على اللغة العربية مصدر قوة،جعلها تتبوأ نفس المكانة التي كانت تعتليها من قبل،فعلا شأنها،وتوسعت معانيها ومبانيها.
فكانت لمصادر الكتب اللغوية،تكامل العلوم فيها،وكان لكتاب”الخصائص” لابن جني،الأثر الكبير في تدبير الدرس اللغوي،والوقوف على أشكال الخطابات المبهرة في اللغة العربية،معتمدا في ذلك على ضوء انغماسه في المرتكزات المعرفية والفلسفية لعلماء الكلام،وعلى رأسهم فرقة المعتزلة التي كان ينتمي إليها،فكانت الإشارات التي اهتدى بها،وأنار بها مشروعه اللغوي ،تكمن في وصوله إلى درجات من الإدراك والامتلاك للغة العربية من خلال أصولها وفروعها.
يقول ابن جني في “باب اختلاف اللغات وكلها حجة: ” اعلم أن سعة القياس تتيح لهم ذلك، ولاتحظره علبهم،ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال (ما)إحدى اللغتين بصاحبتها،لأنها ليست أحق بذلك من وسيلتها، يقبلها القياس،ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك،لأن لكل واحد من القوميين ضربا من القياس يؤخذ به،ويخلد إلى مثله،وليس لك أن إحدى اللغتين بصاحبتها ،لأنها ليست أحق من رسيلتها” ( [6] ).
ويضيف قائلا في باب اللغة في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط:” فقد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أمإلهام،وحكينا وجوزنا فيها الأمرين جميعا،وكيف تصرفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها فإنها لابد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها،ثم احتيج فيما بعد الى الزيادة عليه،لحضور الداعي اليه،فزيد فيها شيئا فشيئا،إلا لأنه على قياس ماكان بق من حروفه وتأليفه،وإعرابه المبين عن معانيه،لايخالف الثاني الأول” ( [7] ).
يعد تعريف اللغة عند ابن جني”المتوفى 391 هـ من التعريفات الدقيقة الى حد بعيد،قال ابن جني:( حد اللغة أصوات بعبر بها كل قوم عن أغراضهم”،وهذا تعريف دقيق يذكر كثيرا من الجوانب المميزة للغة.
فقد شدد ابن جني أولا على الطبيعة الصوتية للغة،كما ذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبيرونقل الفكر،وذكر أيضا أنها تستخدم في مجتمع فلكل قوم لغتهم.
وذهب ابن جني أن أصل اللغة هي تقليد ومحاكاة من الطبيعة كخرير المياه وقصف الرعد وصوت الحيوانات،حيث يقول ابن جني” وذهب يعضهم إلى أن أصل اللغات لها ،إنما هو أصوات المسموعات كدوي البحر وخرير الماء ونعيق الغراب…ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد) وقد كان ابن جني معجبا بهذه النظرية حيث أفرد لها بابا في كتاب الخصائص سماه (باب إمساس الألفاظ أشباه المعنى) .
لقد دخل فطاحل الشعراء بكل ثقلهم في إتمام المعارك التي تخوضها اللغة العربية،فألف أبو العلاء المعري كتابا لغويا شهيرا سماه” رسالة الملائكة” ( *)
وتوالت التأليفات خلال القرنين الثالث والرابع الهجري،من خلال ماسمي ب”المفضليات” و”الأصمعيات” في “جمهرة أشار العرب”
ـ النقاد العرب القدامي،نحو مشروع نقدي متكامل.
لايمكن بأي حال من الأحوال إلا أن نقف وقفة إجلال،أمام مجهودات النقاد العرب القدامى الذين أسسوا لأرضية صلبة تتغبا مساءلة الثرات اللغوي العربي بدء(بطبقات الشعر والشعراء لابن سلام الجمحي،مرورا بالشعر والشعراء لابن قتيبة،وعيار الشعر لابن طابا طابا العربي،والكامل للمبرد،والبيان والتبيين للجاحظ،وكتاب الموازنة،والوساطة بين المتنبي وخصومه،”والعمدة في محاسن الشعر آدابه لابن رشيق القيرواني.
ـ عبدالقاهر الجرجاني: نحو رؤية بلاغية وصوفية جديدة(ق5 ه)
يعد القرن الخامس مرحلة حاسمة في التوصيف اللغوي،والعمق النقد والجمالي في تحديد قوة اللغة العربية، وإبراز مكامن القوة فيها.
يشكل كتابي” أسرار البلاغة” و” دلائل الإعجاز” ،من المؤلفات العربية التي تناولت المنجز البلاغي العربي بنوع من العمق المعرفي واللغوي،وعلى ضوء هذين الكتابين أنجزت مجموعة من الدراسات والبحوث العلمية رأت في هذا المنجز لعبد القاهر الجرجاني، إشارة قوية كون اللغة العربية تنزع نحو قاعدة البقاء بين باقي اللغات،ولأن هذا النزوع نحو الاستمرار ليس إلا نوعا من الإصرار على اكتساب اللغة العربية والتفقه فيها،إذ في مقدمة كتاب أسرار البلاغة يقول عبدالقاهر الجرجاني:” اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها،ويبين مراتبها،ويكشف عن صورها،ويجني صنوف ثمرها،ويدل على سرائرها،ويبرز مكنون ضمائرها،وبه أبان الله تعالى من سائر الحيوان،ونبه فيه على عظيم الامتنان،فقال عز من قائل:”الرحمن علم القرآن،خلق الإنسان،علمه البيان” فلولاه لم تكن لتتعدى فوائد العلم،ولاصح من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه،ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها،واستوت القضية في موجودها وفانيها،نعم ولوقع الحي الحساس في مرتبة الجماد،ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد،ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها،والمعاني مسجونة في موضعها،ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة” ( [8] ) ص 1 أسرار البلاغة
لقد كان عبدالقاهر الجرجاني يعي جيدا أن المدخل الأساسي للغة العربية هو سحر البيان،كون هذا الأخير هو مركز المعرفة الروحية والنفسية، تتقاسمها الذوات المولعة فقط بخبايا اللغة العربية،ومن تم كان عمل الجرجاني ينصب على استكناه العوالم الخفية فيها،ولم يكن الاهتمام بالدرس البلاغي عنده سوى بوابة نحو تفسير وتحليل العمق الصوفي في اللغة العربية.”ومن الأهمية القصوى أن يقال بأن عبدالقاهر قد جاء نتيجة لتطور الثقافة الصوفية العربية،أو بأن نظرية الجرجاني النقدية هي تطبيق لبعض المبادئ الصوفية على النصوص الأدبية..يذهب الجرجاني إلى أن الكلام الناجح ينطوي على ” شدة ائتلاف في شدة اختلاف” بحيث “يريك التئام عين الاضداد”.ويقول في موضع آخر من أسرار البلاغة بأن الكلام الناجح”يجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة،وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة”…ومع الجرجاني اقترب النقد الأدبي من الفلسفة.صار النقد مزيجا من الشاعرية والتفلسف والفاعلية الانتقادية الشديدة على استصدار أحكام القيمة،وهي الأحكام التي من دونها سوف يسمح للوضيع باغتصاب مكانة الرفيع.” ( [9] ) .
” ليس من السهل أن يتتبع الراصد سير العربية في أقطارها قديمة وطارئة،مناخية ومزاجية وبيولوجية،متشابكة في نسيجا معقد.ويمكن مع هذا أن نجمل القول في سير الحياة بلغتنا،فنراها كانت محكومة بتيارين متقابلين: أحدهما يشدها إلى أصلها القديم ويرى في أي خروج عليه ظاهرة فساد ونذير خطر،بل يعد الزمن نفسه عدوا لهاꜝ وشدها تيار آخر إلى مجرى الحياة الذائب المتدفق،منطلقا بها مع الزمن لاتـــــــتوقف.والتــــــــــــــــــياران،عــــــــــــــــــــــــــــلى بعد مابينهما،
يحدثان نوعا من الاتزان بين قديم يحمي الأصالة،وجديد يمدها بالحيوية ويساير بها الزمن،ويقاوم الجمود،عدو الحياة…” ( [10] ).
وإذا كانت جهود الدكتورة عائشة عبدالرحمان تبدو واضحة وجلية في بحوثا المتسلسة حول اللغة العربية وضرورة الحفاظ عليها،فإن الدكتور عمر فروخ لايخرج عن هذا التصور النبيل في صيانة اللغة العربية وإبراز أهميتها وقوتها بين اللغات من خلال جهوده في اتباع المنهج المقارن للمقارنة بين اللغة العربية وغيرها من اللغات كالاسبانية واللاتينية،يقول متحدثا عن اللغة العربية ” اللغة العربية(لغة مضر أو عرب الشمال في نجد) هي – عند التساهل الكبير- إحدى اللغات الأعرابية التي يقال لها خطأ: اللغات السامية،إنها،بهذا النظر،أخت اللغات البابلية والكنعانية والآرامية وابنة عم اللغة الحبشية.وإذا نحن نظرنا في تمام القاموس العربي وفي كمال الصرف والنحو،وجب أن نعد اللغة العربية أما للغات الأعرابية جمعاء،إلا أن يرى أهل الاختصاص رأيا آخر” ( [11] ) .
ــ تساؤلات وإشكالات عامة:
هل تعيش اللغة العربية أزمة ما بين الماضي والحاضر؟ سؤال يتردد إلى الأذهان كلما تم الحديث عنها في مناسبة أو مؤتمر؟
لقد عاشت اللغة العربية مراحل متسلسلة من المؤامرات والدسائس،بدء من تاريخ تشكلها،فكانت أولى الأسئلة،هل اللغة وحي أم إلهام” وعلم آدم الأسماء كلها” ( [12]) إلى سؤال” هل اللغة تواضع واصطلاح ؟ ” ماهي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أزل الله بها من سلطان” ( [13] )
وبتغير الحقب التاريخية،لم تفقد اللغة العربية توهجها ولاقوتها،ففي كل عصر كانت عبر المنتصرين لها والحاملين للوائها تقاوم العجمة بالفصاحة واللحن بالبيان والاعجاز.
إن عظمة اللغة العربية ليست في اعتبارها لغة القرآن الكريم،بل في قدرتها على توليد المعاني من الأفعال والأسماء والحروف،وفي قدرتها أيضا على التواصل وإدهاش المتلقي في كل جنس تحتويه سواء أكان رواية أم قصة أم حكاية وشعرا.
وفي ظل هذه التساؤلات، كان لزاما علينا أن نؤكد أن اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية* فلما انتشر الساميون في الأرض وكثر عددهم وقع اختلاف في لغتهم الأولى،وزاد هذا الاختلاف انقطاع الصلة وتأثير البيئة وتراخي الزمن حتى أصبحت كل لهجة منها لغة مستقلة.
وللإشارة فإن العلماء يردون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية والعربية،كما يردون للغات الآرية إلى اللاتينية واليونانية والسنسكريتية.
فالأرامية أصل الكلدانية والآشوريةوالسريانية،والكنعانية مصدر العبرانية والفينيقية،والعربية تشمل المضرية الفصحى ولهجات أخرى تكلمتها قبائل اليمن والحبشة،والراجح في الرأي أن العربية أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم،لأنها بانعزالها عن العالم سلمت مما أصاب غيرها من التطور والتغير.
ولغة العرب على تعددها واختلاف مرجعياتها إنما ترجع الى لغتين أصليتين:
لغة الشمال ولغة الجنوب وبين اللغتين بون بعيد في الإعراب والضمائر وأحوال الاشتقاق والتصريف،حتى قال عمرو بن العلاء ” مالسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا) على أن اللغتين وإن اختلفتا لم يكن إحدهما بمعزل عن الأخرى.
إن اللغة العربية عبر محطات تاريخية وحقب مختلفة حسمت في مسألة الحفاظ عليها،ولم تكن بحاجة للدفاع عن نفسها،بل وجدت عبر مساراتها التاريخية الطويلة،حصنا حصينا لها ممثلا في:
أ: جمع الشعر الجاهلي وغريب الالفاظ
ب: تدوين القرآن الكريم وجمعه وترتيبه.
ق: ظهور ماسموا بعبيد الشعرك(
ج: توحيد اللغة العربية من طرف الحفاظ والنساخ والخطاطين.
د: مجهودات فطاحل اللغة من نحويين وعروضيين وبلاغيين (أبو الأسود الذؤلي – عمرو بن العلاء – الأصمعي – المفضل الضبي – الزجاج – الكسائي – ابن دريد – الأخفش …..)
ف: دور المناظرات والمدارس النحوية وعلم الكلام في بلورة رؤيا لغوية مميزة.
هــ: وفرة المفاهيم الصوفية وأثرها في تطعيم الدرس الباغي والنقدي العربي.
ن: إسهامات النقاد العرب القدامى من القرن الاول حتى القرن الثامن الهجري.
ــ تحولات اللغة العربية من المعجمة إلى المنقوطة.
ظلت اللغة العربية تكتب غير معجمة(غير منقوطة)،حتى منتصف القرن الأول الهجري،كما ظلت تكب غير مشكولة بالحركات والسكنات.فحين دخل أهل الأمصار في الإسلام واختلط العرب بهم،ظهر اللحن على الألسنة،وخبف على القرآن الكريم أن يتطرق إليه ذلك اللحن.وحينئذ توصل أبو الأسود الذؤلي إلى طريقة لضبط كلمات المصحف،فوضع بلون مخالف من المداد نقطة فوق الحرف للدلالة على الفتحة،ونقطة تحت للدلالة على الكسرة،ونقطة عن شماله للدلالة على الضمة،ونقطتين فوقه أو تحته أو عن شماله للدلالة على التنوين،وترك الحرف الساكن خاليا من النقط،إلا أن هذا الضبط لم يكن يستعمل إلا في المصحف.وفي القرن الثاني الهجري وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي طريقة أخرى،بأن جعل للفتحة أنفا صغيرة مضطجعة فوق الحرف،وللكسرة ياء صغيرة تحته،وللضمة واوا صغيرة فوفه،وكان يكرر الحرف الصغير في حالة التنوين.ثم تطورت هذه الطريقة الى ماهو شائع اليوم.إما إعجام الحروف(تنقيطها) فتم في زمن عبدالملك بن مروان،وقام به نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني،كما قاما بترتيب الحروف هجائيا حسب ماهو شائع اليوم،وتركا الترتيب الأبجدي القديم (أبجد هوز)
إن استحضار هذه المرحلة التاريخية للغة العربية في عصر الأموي ماهو إلا مجرد استشهاد على أن هذه اللغة حظيت بالتتبع والمواكبة من طرف كبار جهابذة اللغويين،وتلتها نفس الجهود في العصر العباسي،من خلال ترجمة الكتب اليونانية والفارسية الى العربية،ولم يعد معجم لغة البادية قادرا وحده على التعبير عن معاني تلك الحضارة،فحمل العلماء على عاتقهم تعريب مصطلحات غير عربية،خلال القرن الرابع الهجري:” هذا القرن الذي يعد من أزهى عصور الابتكار في تأليف النحو واللغة،ولأن اتساع العمران في عهد الدولة الإسلامية الكبرى،التبي كان مركزها بغداد ،خلق تطورا في الحياة العملية،فنشطت لذلك الدراسة اللغوية وتوجت حركة التأليف في النحو بابتكار علم أصوله على يد أبي بكر بن السراج في كتابه”الإيضاح في علل النحو” وهو كتاب نظري موجز في العلل،وغيره من المؤلفات التي أضفت على المشهد اللغوي الكثير من الاضاءات والتفسيرات وما تبعها من شرح للحواشي،
ـ أمجد الطرابلسي واخرون…وصيانة المشروع اللغوي العربي
لايزال المثقون العرب عامة والمثقفون المغاربة خاصة يتذكرون الحفل التكريمي الذي أقام اتحاد كتاب المغرب بومي 1 و2 /4/1987 بالاشتراك مع جامعتي فاس والرباط بمناسبة مرور ربع قرن على هجرته الى المغرب أسهم خلال ذلك في التدريس بأقسام اللغة العربية، وعن هذا اللقاء يقول الدكتور أحمد اليابوري: “…في هذه لببحظات نتمكن جميعا في آن واحد من الدخول في عمق تاريخنا الحقيقي،في أصفى منابعه،وأشرق تجلياته،ومن الاستيطان داخل دائرتنا الجغرافية العربية الحقيقية،متجاوزين الحدود والحساسيات من خلال فكر – رمز مشرق لم يكن سوريا بفدر ماكان مغربيا،ولم يكن مغربيا بقدر ماكان ،فوق كل اعتبار،وخارج كل ارتباط،مثقفا عربيا وحدويا أصيلا..” ( [14] )
علينا أن نلاحظ،أولا أن الغوص في إشكالات تتبع مسار اللغة العربية والقراءات الممكنة لها ضمن الفكر السياسي العربي المعاصرأنهذا الأخير ليس فكرا متسقا،متجانسا،موحدا،بحيث يسهل نعته بصفة عامة تشمله وتختزله،بل هو فكر متنوع الاتجاهات،متعدد المشارب،مختلف المناهج والأهداف،منقسم كل الانقسام،وكأنه بهذه الحالة تعبير مباشر عن واقع التنوع والتعدد والاختلاف والانقسام السائد في الخريطة السياسية- الاجتماعية – الثقافية العربية.
لقد وجدت اللغة العربية نفسها في العصر الحديث أما عدة تصورات مومواقف يمكن أن نحددها فيما يلي:
” – ففي المغرب العربي مثلا،نرى على الأقل ثلاثة أنواع من الاتجاهات(الاتجاه الوطني السلفي الذي شدد على هوية البلد التقليدية وخاصة الهوية الدينية وحدد الاستعمار على أنه بالدرجة الأولى صراع ثقافي بين هويتين متعاديتين،واتجاه تحديثي ليبرالي،واتجاه راديكالي…ونشوء تيارات اديولوجية مشابهة في مصر والمشرق العربي كان منها تيار الاصلاح الديني الممثل بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا،وتيار التحديث الليبرالي الغربي المتمثل بيعقوب صروف وطه حسين،والتيار الراديكالي الذي بدأ بشلبي الشميل وفرح أنطون وعبدالرحمن الكواكبي،وتطور باتجاه تبلور الاديولوجية الاشتراكية” ( [15])
خاتمة:
مهما يكن من أمر أول من تكلم العربية،سواء آدم عليه السلام أم يعرب ،أو اسماعيل بن ابراهيم هو من فتق لسانه بالعربية وهو ابن أربع عشرة سنة لنسيانه لسان أبيه،إلا أنه لاوجود لبراهين علمية او أحاديث نبوية ترجح أيا من تلك الادعاءات.
الا ان اللغة العربية ظلت وستظل دعامة أساسية في صيرورة تحولات ثقافية لها امتدادات معرفية عبر حقب تاريخية شهدت لها بالتفوق والصمود والخلود،والفضل في كل هذا يعود الى تماسك العقل العربي بكل مكوناته،باعتباره عقلا ظل تابثا في ظل أزمات وحروب وقلاقل.لم تنل من قوة هذا العقل في مواقفه ومواقعه .
وبذلك ووفق المجهودات التي بذلت في سبيل إحياء اللغة العربية من طرف لغويين وبلاغيين ولسانيين وسوسيولوجيين كانوا لها نعم السند،مما جعل فرضية استمرارها مسألة لانقاش فيها للاعتبارات السالفة الذكر.
فاللغة العربية اليوم تعيش مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر بسبب المنافسة القوية لباقي اللغات بالإضافة الى الهيمنة الاقتصادية التي تجعل من القوة الاقتصادية رديفا للقوة اللغوية،من منظور قناة أساسية ألا وهي التسويق السياسي والاقتصادي بلغة القوة الاقتصادية،وأكيد أن مثل هذه التحولات النوعية للغة لايمكن أن يتحقق إلا على أيدي الطليعة المستنيرة من المفكرين والقادة والفئات والهيئات التي تدرك مسار التاريخ اللغوي الحديث وقوانينه الموضوعية،وفق أدوات علمية رصينة.
وأخيرا ليس أمامنا من خيارين نصرة اللغة العربية والتوحد لمناصرته في زمن التكتلات الكبرى والتحالفات الدولية الخطيرة المذهبي منها والإثني،وأن قدرنا كأمة عربية من المحيط إلى الخليج هو لم شتات العرب ثقافة وهوية وموقفا بعيدا عن المزايدات المجانية.وبعيدا عن مظاهر مجاملة الذات والإفراط في مدحها ورفع القدسية عن الكثير من المناطق المحرمة على الفكر والنقد واللغة.
المشكل أننا لسنا واعين كل والوعي بأهمية الجانب اللغوي والثقافي،والدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه في التنمية،وحتى في التنمية بمعناها الضيق،أي التنمية التكنولوجية والاقتصادية المحضة.من جهة أخرى يسود الاعتقاد عند الكثيرين وحتى عند المثقفين أن مشكل اللغة مشكل ثانوي،وأن اللغة مجرد أداة للتعبير لاغير.
لاتحديث لثقافتنا العربية تحديثا إبداعيا شاملا إن لم تشارك هذه الثقافة في تحديث لغتنا العربية بروح الفهم والنقد والرؤية الشاملة والمسؤولية والعمل والإبداع.
[1] – معمر بن المثنى التميمي،مجاز القرآن، مكتبة الخانجي،القاهرة، ط1 ،1945 ،ص8 .
[2] – نفسه،ص12 .
( *) ارنست رينان مستشرق فرنسي،(1823 – 1892 ) مهتم بدراسة اللغات السامية،وتميز أيضا باهتمامه الشديد بعشقه للغات القديمة كاليونانية واللاتينية والعبرية والسريانية والعربية.
[3] – إدوارد سعيد،ت محمد العناني،الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق،رؤية للنشر والتوزبع،ط1 ،2006 ،ص 218 .
[4] – نفسه،ص،242 .
[5] – نفسه،ص،247 .
[6] – أبو الفتح عثمان بن جني،الخصائص ج2 ،تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية ،ص10 .
[7] ـ نفسه،ص28 -29 .
(*) أبو العلاء المعري،رسالة الملائكة،
[8] – عبدالقاهر الجرجاني،أسرار البلاغة،تحقيق هـــ .رتير،مطبعة وزارة المعارف،ط2، 1979 ، ص1 .
[9] – يوسف سامي اليــــــــوسف،النـــــــــقد العربي آفاقه وممكــــــناته،مجلة الــــــــوحدة،الســــــنة الخامــــــسة،العدد 49 ،أكتوبر،1988 ،ص11 ،12 .
[10] – عائشة بنت الشاطئ،لغتنا والحياة،دار المعارف بمصر،ط2،1971 ،ص69 – 70 .
[11] – عمر فروخ،عبقرية اللغة العربية،دار الكتاب العربي،بيروت لبنان،ط1، 1981 ،ص 8 .
[12] – سورة البقرة: الآية 31 .
[14] – محيي الدين صبحي،الشاعر العلامة أمجد الطرابلسي والنقد الأكاديمي،مجلة الوحدة،السنة الخامسة،العدد 49 ، 1988 ،ص 160 .
[15] – هشام القروي،أزمة فكر أم أزمة واقع؟ مجلة الوحدة،السنة الرابعة،العدد 46/47 يوليو 1988 ، ص7 .