كانت نسرين، أستاذة الإسبانية ذات الأعوام الثلاثة والثلاثين، تجلس الى طاولة صغيرة في زاوية مقهى “أوليفري”، حيث يتلألأ الضوء على الكؤوس المليئة بالآيس كريم. تُدرّس نسرين الإسبانية في معهد “سيرفانتيس”، وتمتلك موهبة نادرة في تحويل الكلمات إلى أغنيات. و حينما تتحدث بلسان دون كيشوت، يختلط صوتها بدلال يزيد عن حدّه، وكأنها تمثل في مسلسل مكسيكي يعرض في ساعة الذروة.
الى الطاولة ذاتها، جلست معها سعاد، التي تسلحت بجرأة صديقة تعرفها جيدًا، لسنوات طويلة.. وسألتها:
“نسرين، 33 سنة ولم تتزوجي بعد؟”
نظرت نسرين إلى صديقاتها اللواتي كنّ موزعات حول الطاولة كأزهار الربيع. سميرة، 38 ؛ زهرة، 40 ؛ خديجة، 42 سنة، و كلهن غير متزوجات. كلهن في حال مشابهة، وكأن قطار الزواج لم يتوقف لهن في محطة كازابلانكا منذ عام 2000.
همست نسرين لنفسها وهي تتناول ملعقة صغيرة من آيس كريم الفانيليا:
“الحمد لله. العنوسة ليست مشكلًا اذا كان يصاحبها الرضا بقضاء الله. كل شيء في الحياة قسمة ونصيب.”
لكن هذا الصوت الهامس الخفي المتردد في اعماقها لم يمنعها من أن تجاهر، كما تعودت على ذلك دائمًا خلال هذه المحادثات :
“يا بنات، الزواج ليس معيارًا وحيدا لقيمة المرأة. أنا لا أفهم لماذا يعتقد البعض أن الإنجاز الأعظم للفتاة يتمثل في الارتباط و إنجاب نصف دزينة من الأطفال، و كأننا في مسابقة ! الزواج سنة الحياة.. مؤكد.. لكن أن تكوني نافعة للبلاد والعباد فهذا جيد ايضا. الزواج الناجح يبقى قدر الله و تدبيره. وإذا حدث، علينا أن نسأل الله أن يرزقنا زوجًا مسؤولا مناسبًا، لا قطعة آيس كريم تذوب بمجرد تعرضها لاشعة الشمس !”
و في هذه اللحظة، ابتسمت سميرة، و التي كانت بدورها تستمتع بالتهام الآيس كريم ، و قالت بلهجة حادة:
“نسرين، ألا تعتقدين أن النسوية هي سبب خراب المجتمع؟ المجتمع دُمّر. المجتمع نسفته النسويات الحاقدات على الذكور. و لعل الإعلام الخبيث يمشي في الاتجاه نفسه اذ يغرقنا يوميًا بسمومه القاتلة. تمجيد المرأة العازبة، تقديس المرأة المطلقة، و تحريض المرأة المتزوجة على عصيان زوجها. بل الأسوأ ما بتنا نشاهده كل يوم من احتقار غير مسبوق لربة البيت! هل تعلمين أن ربة البيت هي أعظم امرأة على الإطلاق؟ إنها تعمل 24 ساعة بلا توقف، و تضحي بصحتها ووقتها كي توفر الراحة لعائلتها، بينما نحن هنا نأكل الآيس كريم ونثرثر حول موضوع القسمة والنصيب!”
و كانت سعاد تتابع النقاش بنظرة ساخرة، و في لحظة من اللحظات أضافت بصوت يشبه صوت المعلّق الرياضي:
” بالمناسبة، الكثير من رجال هذا العصر أصبحوا مثل الآيس كريم. رخاوة، و طراوة، و نقص في الصلابة. هل يمكن الاعتماد على رجل بمثل هذه المواصفات؟ تخيلي أنك تستندين على كتفه، فتجدينه قد ذاب!”
انفجرت نسرين ضاحكة، لكنها لم ترد. لقد كانت مشغولة بملاحظة شيء آخر: فبينما كانت صديقاتها تتحدثن عن الرجال والآيس كريم، كانت هناك امرأة مسنّة تمرّ بجانب الطاولة، و ترميهن بنظرة تجمع بين الحنان والتوبيخ. و كان من الواضح أن تلك المرأة قد سمعت نتفا من النقاش، لكنها لم تقل شيئًا.
“وماذا عن النساء؟” أضافت سعاد وهي تضع ملعقتها في كاس الايس كريم الفارغ. ” لقد أصبحن مثل ثلاجة الآيس كريم. قوة فولاذية، و صلابة لا تُقهر. أين هي رقة المرأة؟ أين حنانها وغنجها؟ أين السكن الآمن تحت جناح الرجل؟”
و من جديد ضحكت نسرين ثم اردفت :
“يا سعاد، أنتِ تتحدثين وكأنك في مسلسل تركي! الرقة والغنج؟ هل تعتقدين أن الرجل الصلب الذي تتحدثين عنه يريد امرأة ناعمة تتكسر عند أول نسمة هواء؟ إننا نعيش في عالم تغيّر يا صديقتي. الرجال أصبحوا يشبهون الآيس كريم، والنساء أصبحن قطعا من الفولاذ. رباه ! انه العبث.. انها فوضى جندرية فوق كل الاوصاف.”
و من جهتها فان سميرة، التي بدا أنها تحمل ثقل العالم على كتفيها، لم تضحك البتة خلال هذه المحادثة و لكنها قالت بجدية مُفرطة:
“الزواج ليس مجرد قسمة ونصيب يا نسرين. إنه مسؤولية. إنه نظام اجتماعي يعيد التوازن بين الأدوار. وإذا فقدناه، فقدنا كل شيء.”
لكن هنا، قاطعتها سعاد وهي تشير بملعقتها نحو السماء:
“يا بنات، انظرن إلى الرجل الجالس هناك!”
و الى طاولة قريبة، كان هناك رجل وسيم في الأربعينيات من عمره. كان يضع نظارات شمسية ملونة ويقرأ كتابًا بعنوان <كيف تُصبح رجلاً في ثلاثة أيام>. و كان الرجل يمسك بيمناه كعكة شوكولاتة، و يقضمها ببطء شديد و كانه يريدها ان لا تنتهي.
قالت نسرين وهي تضحك بشدة:
“ربما هذا الرجل يحاول أن يستعيد صلابته. أو ربما يحاول أن يكون الرجل الذي لا يذوب تحت شمس كازا !”
و هنا يبدو ان سميرة لم تستوعب الدعابة اذ ردت بجديّة مُبالغ فيها :
“لا تسخري. ربما هو فعلاً يبحث عن الصلابة في هذا العالم المليء بالرخاوة.”
و انصرمت عشرون دقيقة و فجاة قام الرجل من مكانه واقترب من طاولتهن. و خفض نظاراته الشمسية قليلًا، وقال بنبرة هادئة لطيفة :
“آسف على الإزعاج، لكن هل يمكنني الانضمام الى المحادثة؟ يبدو أن نقاشكنّ شيق للغاية.”
تبادلت النساء نظرات ماكرة، وفي لحظة صمت قصيرة كانت تزن ألف كلمة، قالت نسرين بابتسامتها المعتادة:
“بالطبع. لكن بشرط!”
رفع الرجل حاجبيه وسأل:
“وما هو ؟”
قالت نسرين، وهي تشير إلى طاولتها حيث ما تبقى من الآيس كريم يذوب في كؤوس البنات الاربع :
“أن تشرح لنا كيف تتعامل مع ذوبان الآيس كريم تحت شمس كازا؟”
ابتسم الرجل وقال بثقة:
“الحياة مثل الآيس كريم. إذا لم تأكله بسرعة، فسوف يذوب. وإذا أكلته بسرعة، قد تُصاب بصداع في رأسك. ان سر الحياة هو ان تستمتع بكل لحظة من لحظاتها و تدردش متى امكن مع الناس اللطفاء و الظرفاء”.
و اخيرا ضحكت البنات جميعهن، هذه المرة، و دون استثناء.