من ساو باولو الى مكة

“مَنْ حَجَّ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ فَازَ بِالحَجِّ الأَكْبَرِ” – محب الدين البغدادي
يقول الراوي:

“تمرّ بنا الأيام كأنها ريحٌ عابرة، تحملنا حيث لا ندري، حتى تأتي لحظةٌ نقف فيها بين يدي الخالق، وندرك أننا كنا نركض خلف السراب. لحظةٌ خاطفة، نظرةٌ واحدة، قد تغيّر مسار القلب، كما يغيّر النهر مجراه حين تهطل عليه أمطار الرحمة. وهذا ما حدث لكريم في رحلته من ساو باولو إلى مكة، حيث سار في دربٍ لم يكن يظن أنه سيعبره، لكنه كان السبيل الوحيد الذي قاده إلى نفسه.
في أحد الأحياء المكتظة بساو باولو، حيث تمتزج رائحة القهوة المحمّصة بصوت المحركات وضجيج الأسواق، كان كريم، وهو شاب برازيلي من أصول سورية، يجلس في مكتبه محدّقا في شاشة الحاسوب، لكنه لم يكن يرى شيئًا. الملفات القانونية مكدّسة أمامه، والهاتف لا يتوقف عن الرنين، لكنه لم يكن يسمع سوى صوت داخليّ غريب، كأنّ الزمن توقف داخله.
كان كريم يعمل محاميًا في واحدةٍ من أكبر الشركات القانونية في البرازيل.. كان رجلا ناجحا بمعايير الدنيا، لكنه كان يعلم أن نجاحه ليس إلا قناعًا هشًا، بل رمادًا تذروه الرياح… المال، السلطة، اللهو، النفوذ… كل شيءٍ كان في متناوله، لكنه في تلك اللحظة شعر كأنّ كل ما يملكه يتحوّل إلى هباء بين أصابعه.
استلقى على كرسيّه، وأغمض عينيه. منذ أيام، يتردد في أعماقه صوتٌ لا يعرف مصدره، لكنه يذكّره بما كان يُتلى في البيت قبل عشرين سنة عندما كان يزورهم كل جمعة جده عبد الحي: “ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق؟”
حاول كريم أن يهرب من هذا الصوت، لكنه كان يعود إليه في كل مرةٍ يكون فيها وحيدًا.
وفي تلك الليلة، قرر أن يجيب النداء.
في صباح اليوم التالي، ودّع كريم مكتبه، وباع سيارته، وابتاع تذكرةً إلى الديار المقدسة. لم يكن يعرف لماذا يفعل هذا، لكنه شعر أنّ عليه أن يرحل، أن يبتعد عن هذا الضجيج، أن يبحث عن شيءٍ لم يكن يعرف اسمه بعد.
حين أقلعت الطائرة، نظر من النافذة، ورأى ساو باولو تبتعد عنه وتتضاءل تحت قدميه. كم ترك خلفه من الذكريات؟ كم من الخطايا تراكمت بين ثنايا روحه؟
أغمض عينيه، فخطر بباله جده عبد الحي وكلامه المشبع بآيات الرحمن وأحاديث رسوله، وكذلك أقوال الأولياء والصالحين… وهكذا، حين أسدل كريم جفنيه والطائرة تحلق مئات الأميال بعيدًا عن ساو باولو، تذكر في لحظة عجيبة من إشراق روحه الباحثة عن نور الله قول سيدي أبي الحسن الشاذلي:
“إذا أردتَ الوصول فاقطع عنك كل عائق، واحمل قلبك على الصدق في جميع الطرائق.”
تنهد كريم، وشعر أنّ رحلته هذه ليست وجهتها مكة فحسب، بل إن المنتهى وربما بداية الرحلة هو قلبه.
وأخيرًا، وطئت قدما كريم أرض مكة، وشعر بثقلٍ غريب، كأنّه يحمل داخله جبالًا من الذنوب. سار بين شوارعها المزدحمة، وكان قلبه يخفق بعنف، وكانت روحه تتململ كطائرٍ حبيس يبحث عن الحرية.
وحين دخل المسجد الحرام، رأى الكعبة… توقف عند المدخل، وأحسّ بأنّ الزمن قد تجمد. كيف يمكن لحجرٍ أن يكون بهذا الجلال والجمال؟ كيف يمكن لمكانٍ واحدٍ أن يجمع القلوب من كل أصقاع الأرض، ويجعلها تنبض بإيقاعٍ واحد؟
لم يتمالك كريم نفسه، جثا على ركبتيه، وانهمرت دموعه…
ولأول مرة منذ سنوات، بكى بلا خوف، بلا تردد، وبلا إحساسٍ بالوهن. بكى بلا تكلف، وأحسّ أنه عبدٌ لله، وأن عبوديته الخالصة للمولى هي بداية الطريق نحو السلام والحرية… شعر كريم وهو يطوف حول الكعبة أنّ قلبه ينبض من جديد، وأنه يُغسل بماءٍ طاهرٍ يمسح كل الذنوب.
و مرت أيام، وقرر كريم أن يزور المدينة. كان يسمع دائمًا أن زيارة النبي ﷺ تُليّن القلوب، وأن رؤية مقامه الطاهر و روضته الشريفة دواء للروح. وكان صاحبنا في مسيس الحاجة لأن يضيء قلبه بنور النبي المصطفى الكريم.
وحين دلف إلى المسجد النبوي، شعر كريم أنه في مكانٍ يختلف عن أيّ بقعة أخرى من دنيا الله الواسعة الفسيحة.
رونق لا مثيل له، هدوء عجيب، طمأنينة لا مثيل لها، وسلامٌ يضمّخ الجو والمشاعر…
يا جمال النبي !
كان الزحام شديدًا، واحتاج إلى ساعتين كاملتين ليصل إلى هناك. وأخيرًا، وقف كريم أمام الروضة الشريفة، ولم يستطع الكلام. اغرورقت عيناه ببحرٍ من الدموع، وتخيّل الرسول الأمين واقفًا أمامه وهو يسقي الأمة بيديه الكريمتين. أراد كريم أن يهمس لربه، أن يطلب شيئًا مخصوصًا، لكن كل كلمات الدنيا عجزت عن التعبير.
وأخيرًا، قال بصوتٍ خافت:
“يا رسول الله، يا حبيبي يا محمد، أتيتك زائرًا… يا إلهي، بجاه نبيك الكريم، دلّني على الطريق.”
وبكى كريم حتى كاد يختنق، بكى من أعماق قلبه كما لم يبكِ من قبل.
و بعد يومين، عاد كريم إلى البرازيل، لكنه لم يكن الإنسان نفسه…
لقد ذاق لأول مرة في حياته حلاوة أن يكون عبدًا من عباد الله وجنديًا من جنوده…
وحين ذرع شوارع ساو باولو، شعر هذه المرة أنه غريبٌ في مدينته. الأماكن هي هي نفسها، الناس لم يتغيروا، لكنه لم يعد واحدًا منهم.
لقد قادته رحلة الفناء في الله والتسليم له إلى التحول.
وبعد خمس ساعات من التجوال الطويل في الشوارع، عاد كريم إلى مكتبه القديم، وألقى نظرة إلى الطاولة التي جلس خلفها لسنوات، وإلى الأوراق التي كانت تُمثّل حياته، واخترقه من جديد إحساسٌ مبهمٌ غريب… وهمس لنفسه:
“ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير.”
وعلى مرّ الأسابيع التالية، بدأ كريم حياةً جديدة. باع جزءًا كبيرًا من أملاكه، وأقبل على مساعدة الفقراء، كما انضم إلى عددٍ من الجمعيات الخيرية، وصار يبحث في كل مدينة يزورها عن الأرامل والأيتام لمساعدتهم، وعن الجائعين لإطعامهم، في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
وذات مساء، حين كان كريم جالسًا في شرفة منزله، يحدّق طويلًا في السماء، تذكّر مكة الحبيبة، وتذكّر بالخصوص قلب الأرض ومركزها: الكعبة المشرفة، واستعاد ذلك الشعور الذي هز كيانه عند مقام النبي الأمين ﷺ.
وفجأة، جال بباله سؤالٌ غريب:
“ماذا لو أنّ كل ما رأيته وعشته في مكة والمدينة لم يكن إلا حلمًا؟ ماذا لو كنتُ ما زلتُ في ساو باولو، أجلس في مكتبي، وماذا لو أنّ كل ما حدث لم يكن إلا وهمًا عابرًا؟”
ارتجف جسده…
ثم ابتسم.
وأخيرًا، أدرك كريم، بينما كان الليل يرخي سدوله على المدينة، أنّ الوهم الحقيقي كان حياته السابقة، وليس ما وجده هناك، في الديار المقدسة.. “