المهاجر و البحر

“ٱلْكِتَابَةُ بِالنِّسْبَةِ لِي لَيْسَتْ مِهْنَةً، وَإِنَّمَا هِيَ قَدَرٌ… لَا أَسْتَطِيعُ ٱلهُرُوبَ مِنْهُ، وَلَا أُرِيدُ.”
— عَلَاء ٱلْأَسْوَانِي

أحببتُ الإصغاء منذ الصغر؛ أحاديث الناس، قصصهم، أفراحهم، أتراحهم، أحلامهم وأوهامهم، كل ذلك كنتُ أستمع إليه وأدعه ينطبع في ذهني. وعندما كبرتُ وصارت الكتابة مهنتي، مضيتُ أخطُّ على الورق أبطالًا ووقائع ومشاهد، ليس كما حدثت بالتفصيل، بل كما يحلو لي أن أشكِّلها حسب ما أريد أن أمرِّره من أفكار ورؤى وتأملات.
استمتعتُ كثيرًا بصحبة فريد في آخر لقاء جمعنا في “روج إي نوار” المطل على البحر، والذي ليس مجرد مقهى، بل موطن لأحاديثنا اللامنتهية، ومعقل لصداقة دامت سنوات.
“روج إي نوار”: روح البحر، ورائحة المحار، وسكون الأصداف، ورذاذ الأمواج، والمستراح، والمتنفس، ومغترف الأسرار، والخل الحميم، ومولد آلاف الحوارات والانفعالات والصرخات. ولستُ أبالغ حين أقول إن فريد، في شتاء ذاك العام الدافئ، كان فياضًا في الحديث كعادته، ملتهب العاطفة، قوي الحجة، في تماهٍ عجيب مع شتاء 2009 الذي أفعم بالودِّ حواسنا وقلوبنا الشابة المجنونة بالحياة.
ما زلتُ أذكر كل كلمة جاد بها لسان فريد، وتفتقت عن خياله الجامح، كأن الأمس هو اليوم، بل كأنك يا فريد حاضرٌ معي في كل مكان، وستبقى كذلك دائمًا، أيها العزيز.
يقول فريد:
“بعد عودتي من مهجري في إنجلترا مستهل العام الماضي، قررتُ أن أكرس كل وقتي وجهدي لعملي في ميدان التعليم الخاص. ولم يقع اختياري على كازابلانكا بالصدفة، فأنا أصيل هذه المدينة. وهنا، قبل أن أقرر العيش والاستقرار، أجريتُ ما يربو على خمس عشرة مقابلة مع مشغلين ومديرين لمدارس عليا ذوي شخصيات شديدة التمايز، دون أن تختلف في خاصية مشتركة: الغموض المغلَّف بسوء الظن. غموض في كل شيء؛ فلا وضوح في أنواع العقود، بين الدائم والموسمي، ولا معلومة كافية عن الأجور المدفوعة، أو أنواع الشراكة، أو سبل الارتقاء، أو الفرق بين الرسمي وغير الرسمي من المهام.
كنتُ أخطط لعودتي إلى المغرب خلال إقامتي اللندنية، ولم يكن عدد المقابلات التي أجريتها، في سباق ماراثوني مع الزمن، أي في حدود شهر واحد، وفي سباق جنوني مع نفسي… لم يكن هذا العدد محايدًا أو غير دالٍّ بالنسبة لي؛ فخمسة عشر عامًا هي المدة التي قضيتها في إنجلترا، بين علمٍ وتعلُّمٍ وعملٍ وخبرةٍ في مجال التسويق، وبين أسفارٍ ومؤتمراتٍ دوليةٍ وأبحاثٍ جامعية، وعلى إيقاع حياةٍ لندنيةٍ خيمت عليها ظلالٌ من المشاق والكآبة والبهجة أحيانًا، وفي أحايين كثيرة ظلالٌ أخرى من البرد والخواء والفراغ المدمر، رغم النجاح والتألق المهني، ورغم زوجة حنون وطفلين مرحين طاهرين كالملائكة، مشاغبين كأدهى العفاريت. رغم كل شيء… رغم البحث اللامنتهي عن المعنى.
البحث عن المعنى؟ و لكن، هل وجدتُ في الوطن ما أبحث عنه؟
كنتُ كل يوم، وأنا أمضي قدمًا في عملي الجديد كأستاذ للتسويق بإحدى المدارس العليا الخاصة في كازابلانكا، أندفع لاكتشاف ملامح هذا المجتمع الذي غبتُ عنه أكثر من خمس عشرة سنة، والذي شدَّني إليه الحنين لأجده في أسوأ حال؛ نعم، أسوأ مما كان عليه حين غادرته ولم أكمل بعد العشرين.
لا أحد يهتم بالتعلُّم أو العمل. مدارسُ وجامعاتٌ بلا مستقبل، بلا تخطيط، بلا أدنى قيمة علمية، ناهيك عن طلبة سيطر عليهم الخمول وفقدان الأهداف والرغبة في النجاح بأقل مجهود. وكم من مرة وجدتُ نفسي عاجزًا عن الاقتناع بطلبةٍ همهم الوحيد أن يبرهنوا للأستاذ أنه، بحكم دراستهم في مدرسةٍ خاصة، فإن نجاحهم مضمونٌ بقوة المال المدفوع.
ويوما بعد يوم، استطعتُ أن أنفذ إلى أعماق هذا البلد الذي بتُّ ألخِّصه في جملة واحدة: الفراغ المبني على المظاهر والسطحية في كل شيء. كل ذلك وأنا حريصٌ كل الحرص على تأدية عملي بتفانٍ وإخلاص، وعلى عدم الانزلاق إلى التعميم الشامل، لأن التعميم عمى، وهو أقرب الطرق إلى الابتعاد عن الصواب والجور في الحكم”.
فعلاً، استمتعتُ كثيرًا بصحبتك يا فريد في آخر لقاء جمعنا في “روج إي نوار”، موطن أحاديثنا اللامنتهية، في آخر لقاء لنا بروح البحر ورائحة المحار وسكون الأصداف ورذاذ الأمواج والمستراح والمتنفس ومغترف الأسرار والخل الحميم ومولد آلاف الحوارات والانفعالات والصرخات.
استمتعتُ، ولكني في الوقت نفسه حزينٌ حتى الموت، لأنك حزمتَ حقائبك دون سابق إنذار، وجنَّدت أسرتك على أن تهاجر معك إلى بلدٍ آخر يحترم العلم ويقدِّس العمل والتفوُّق.
فهل تغيب عنَّا دون رجعة؟ وهل يكون هذا قرارك الأخير؟.