لَبَّيْك..

[ قصة من وحي الخيال.. لكنها اقوى و اعمق و اصدق من الواقع ]“كُلُّ طَرِيقٍ يَنْتَهِي، إِلَّا الطَّرِيق إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ.” – محيي الدين بن عربي.
يقول الراوي:

” منذ طفولتي وطوال فترة شبابي، كنت أعيش في أجواء الدين. كنت مواظبًا على الذكر والعبادات، لكنني كنت أعتبر نفسي متدينًا عاديًا جدًا، بحيث كانت علاقتي بالدين قائمة على الفرائض الواجبة مع بعض النوافل حسب المواسم والوقت المتاح.
بصراحة، لم أفكر يومًا في أن أذهب أبعد من ذلك، وأن أشد الرحال إلى أقدس مكان على وجه الأرض: بيت الله الحرام.
وفي مستهل شبابي، لا أزال أذكر ذلك جيدًا، حصلت على الماجستير في الصحافة وأنا ابن الثانية والعشرين، وكنت الأول على دفعتي، وانغمست بسرعة عجيبة في مهنة المتاعب التي كنت أعشقها حد الجنون.
كان عملي شاقًا، منهكًا، مليئًا بالسفر من دولة إلى أخرى، حيث كنت أغيب عن المنزل لأسابيع طويلة، وأحيانًا لأشهر متوالية، وكنت كثير التنقل بين المؤتمرات والمقابلات مع كبار الفنانين والسياسيين، ناهيك عن سيل لا ينقطع من التغطيات الصحفية في أمريكا وأوروبا وشمال أفريقيا.
أوه.. يا إلهي! لم يكن لدي وقت للتفكير في شيء آخر، كنت أعمل ليل نهار دون توقف. كنت حمارًا نذر حياته لطاحونة العمل. كنت أنا العمل، وكان العمل أنا، وكان بيننا تصاهر أقوى من الفولاذ، وكان بيننا زواج كاثوليكي مؤبد لا تنحل عقدته ولا تنقطع أواصره. تخيلوا معي، حتى عائلتي وأسرتي الصغيرة على وجه الخصوص لم تكن تحظى مني إلا بالقليل من الوقت، القليل جدًا.
وفي خضم هذه المعمعة من الهوس المفرط والاعمى بالعمل، كانت جميلة الجميلات بنظراتها العسلية الحنونة المتفهمة وصبرها الأسطوري تساندني وتقف إلى جانبي. بالفعل، كانت زوجتي متعاطفة معي إلى أقصى الحدود. لم تتذمر يومًا من غيابي، لم تعترض على جدول حياتي المزدحم، بل كانت دائمًا تبتسم قائلة:
“لا مشكل يا عزيزي.. أنت تفعل ما تحب، ونجاحك وتألقك مصدر سعادة لي وفخر لا حدود له. استمر في العمل بالوتيرة التي تناسبك.”
ومرت عشرة أعوام على زواجنا. كبرنا ونضجنا، واكتوينا بنيران الحياة والمسؤوليات. وأشرفنا نحن الاثنين على الأربعين، وكنا نظن أن الأيام ستستمر كما هي، لكن هيهات.. ففي لحظة غير متوقعة، أصيب الملاك بمرض فتاك لم ينفع معه علاج.
كانت البداية زلزالًا قلب حياتنا رأسًا على عقب. وعندما أخبرنا الأطباء أن المرض خطير وأنه يتمدد كالوحش الكاسر في خلايا الملاك، نظرتُ إلى زوجتي فرأيت في عينيها خوفًا رهيبًا أقوى من الموت. لقد كان خوفًا من أن تنتقل إلى العالم الآخر دون أن تعيش بكل جوارحها وروحها تجربة العشق والفناء.
ودون أدنى تأخر حصلت المعجزة. وكان ولا يزال الأمر الإلهي المقدس بين الكاف والنون.
بدأت زوجتي تعيش على أنغام اللانهايات ثورة في النفس والروح. لم يعد الملاك يكتفي بالصلاة، بل أصبح يتعبد في كل حين، ويكثر من إخراج الصدقات، ويتهجد ويبكي في جوف الليل.
كانت زوجتي تبكي راجية من العلي القدير أن يمنحها الشفاء والرحمة. وكنت أراقبها في صمت طويل، ولا ألبث أن أتساءل:
“كيف لم أرَ هذا الجانب منها من قبل؟ كيف لم أفكر أنا أيضًا في التقرب أكثر إلى رب العالمين؟”
وبعد سبعة أيام بالتمام والكمال، كنت في المنزل آخذ استراحة قصيرة بعد تغطية صحفية مرهقة، فجاءتني زوجتي ووجهها يشع نورًا، وكانت عيناها تلتمعان بنظرات الرجاء.
وقالت لي بصوت مفعم باليقين:
“مراد، أنا مريضة جدًا، وقد أموت في أي لحظة. أنا مثقلة بالخطايا، وقبل أن أموت…”
وهنا اغرورقت عيناي بالدموع للحظة، وبعد ثلاث ثوانٍ لم أتمالك نفسي فإذا بي أجهش بالبكاء.
بكيت، وبكيت.. كالطفل الصغير الذي سيفقد أمه..
رماني الملاك بنظرة باكية تسيل عطفًا وحنانًا.. وفي سرعة البرق ألقت زوجتي بنفسها في أحضاني، وذبنا في ضمة أبدية ارتجت لها الأرض والسماوات السبع..
وأردفت:
“لا تبكِ.. عساني وإياك نتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم.. أرجوك، لا تتردد.. رافقني إلى أمنا مكة..”
لم أخطط يومًا لزيارة أم القرى، لكني تهاويت أمام طوفان دموعك أيها الملاك..
لبيك اللهم لبيك..
“سنذهب يا حبيبتي. سنذهب إلى مكة، وإلى المدينة. سنطوف بالكعبة، وسنقف في البيت العتيق ونسأل ربنا ومولانا الشفاء والرحمة. إنه على كل شيء قدير.”
وفي الأيام الموالية، بدأنا التحضيرات للسفر.
لم يكن سفرًا عاديًا، كانت رحلة العمر.. كان فتحًا وكشفًا ونورًا ساطعًا ومعراجًا للروح إلى السماء من الأرض.
وكانت لحظة لا تُنسى. وصلنا أخيرًا إلى الحرم، وكنا نردد ونحن في طريقنا إليه، ونحن نبكي بلا توقف، كنا نردد ما ردده قبل مئات السنين خير الورى عليه الصلاة والسلام:
“لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.”
لبيك وسعديك.. إلهي.. كنت على مدار سنوات طوال أعمل كالروبوت، دون توقف ودون إحساس.. كنت طوال هذه الأعوام غافلًا غارقًا في الماديات.. فهل كنت أهرب في لا وعيي من هذا النداء؟
وبعد ساعة وصلنا إلى تخوم الكعبة، وكان المشهد أسطوريًا مهيبًا تعجز عن وصفه أقوى وأعمق الكلمات. لم أرَ في حياتي صرحًا بهذا الجمال والجلال. لم يكن حجرًا عاديًا، بل كان قبسًا من نور الرحمن. وكان المؤمنون من كل حدب وصوب يطوفون حول الكعبة المشرفة في مشهد عظيم خارق تقشعر له الأبدان. كنت أسمع صوت الدعاء، وصوت التكبير، وكنت بدوري بمعية الملاك.. كنا غارقين في التسبيح والتضرع والدعاء.
كنا نقف في حضرة النور.. لقد كنا خارج الزمان والمكان..
ولكن أكثر ما شد انتباهي وحرك مشاعري هو زوجتي التي كانت تطوف حول الكعبة وعيناها تفيضان بالدموع. كان الملاك يردد الأدعية بحرقة كأنه ينتظر هذا اللقاء المبارك منذ سنوات وسنوات.
وحين لاحظت أني أنظر إليها، همست لي:
“مراد، أشعر وكأنني كنت ميتة وعُدت الآن للحياة.”
وفي الليلة الأخيرة بمكة، وبينما كنا في الفندق، أخبرتني بسر من الأسرار زلزل كياني وارتج له فؤادي:
“مراد.. منذ ثلاثين عامًا مضت، كان أبي يستعد للحج إلى بيت الله. كان يحلم بهذه الرحلة طوال حياته، وكان يعدّ الأيام حتى يأتي يوم سفره. لكنه في طريقه إلى هناك، وافته المنية وهو على متن الطائرة. لم يصل، لم يرَ الكعبة، لم يسجد في الحرم، ولم يُتم حلمه.”
وأخذت نفسًا عميقًا، ثم أضافت بصوت تخنقه العبرات:
“منذ ذلك اليوم، أصبحت مكة بالنسبة لي أكثر من بلد أمين مقدس، لقد صارت وصية أبي التي لم تتحقق. لهذا السبب، كنتُ أريد أن أكون هنا.”
لم أنبس ببنت شفة. أمسكت يد زوجتي بقوة، وشعرت في تلك اللحظة أني أفهمها.. وأسبُر أغوارها لأول مرة، بل ربما للمرة الأولى.
وبعد يومين، غادرنا مكة متجهين إلى مدينة النبي الحبيب. كنت أعتقد أن الكعبة ستكون التجربة الوحيدة من حيث العمق والتأثير.. لكني كعادتي كنت مخطئًا في التقدير.
وأخيرًا، وصلنا إلى المسجد النبوي، وخيّمت علينا سكينة ربانية رحمانية يستحيل أن تصفها كل لغات العالم..
كانت زوجتي تمسك يمناي بقوة، وأحسسنا نحن الاثنين بروح الحبيب ترف فوق رؤوسنا. ولم تتمالك زوجتي مشاعرها وقالت بصوت يتراوح بين الأنين والحنين والرجاء الصادق:
“السلام عليك يا رسول الله..
جئتك يا إلهي وحبيبي بقلب أثقله المرض، وجسد أنهكته الأيام، ولكني جئتك بلهفة وفرح.. إلهي أنت في كل مكان. أنا في حضرتك البهية، هنا وهناك.. ارحمني يا إلهي.. افتح لي أبواب رحمتك..”
وبعد ساعات من التعبد والتهجد في المسجد النبوي الشريف عدنا أدراجنا إلى الفندق، وقالت لي زوجتي بصوت سربله الهدوء:
“مراد، أشعر أن الله قد استجاب دعائي. أشعر أني أبعث وأولد من جديد.”
“وأنا أيضًا يا حب حياتي. من زمان وأنا أبحث عن شيء لا أعرفه، والآن فقط وجدت ما أبحث عنه. أنا مطمئن ولا أبالي بأي شيء في هذه الدنيا الفانية. الحمد لله.”
وبعد أيام قليلة، عدنا إلى المغرب، لكن الملاك تغير. كان المرض لا يزال ساكنًا في جسدها، لكن روح زوجتي كانت خفيفة كالريشة، مشعة، متوهجة، ومتلالئة بالأنوار، وكان هذا أقوى من كل شيء وأهم من كل شيء.
ومرت الأيام، وكنا نشاهد في صيف العام الماضي ألبوم الصور التي التقطناها بين مكة والمدينة، وفي تلك اللحظة التي لن أنساها ما حييت، نظر إليّ الملاك الطاهر طويلًا وقال لي بهدوء أسطوري ساحر:
“مراد، لم تكن تلك النهاية.. إنها البداية يا حبيبي.. مراد.. الحياة كلها حج في سبيل الله.”