جامع القرويين : عندما شهدت فاس ميلاد منارة العلم والهدى في الفاتح من رمضان

في فاتح رمضان من العام 245 هـ / 859 م، أي قبل مائة سنة من تأسيس جامع الأزهر بالقاهرة، أسست فاطمة بنت محمد الفهري، سليلة أحد أثرياء القيروان في تونس، جامع القرويين الذي حظي بعناية فائقة وحفاوة بالغة من المغاربة، حيث اتخذ منه العباد مركزا نورانيا لعبادتهم، وخصه العلماء بإلقاء دروسهم بين أساطينه وفوق كراسيه، فلم يلبث أن تحول إلى منارة تشع منها أنوار الهدى للناسكين وأبرع الدراسات والعلوم العقلية والنقلية للعلماء والباحثين عبر العصور، حيث ظل مركزا زاخرا بالعلوم الإنسانية بما فيها من طب وموسيقى، وامتاز –علاوة على ذلك- بالدراسات الإسلامية العليا ذات الطابع العميق في بحث أسرار الشريعة الإسلامية وفلسفة اللغة العربية وكنوز معارفها، ما حوله إلى مقصد يؤمه الطلاب من جميع أنحاء الدنيا قصد الاغتراف من معينه الفياض لأنه كان الكلية الوحيدة التي ذاع صيتها عبر العالم.
وقد اعترف للقرويين بهذه الأولية المؤرخون الأجانب فقد كتب عنها أحد علماء الروس يقول: إن أقدم كلية في العالم ليست في أوربا كما كان الاعتقاد سائدا، بل في إفريقيا في مدينة فاس عاصمة بلاد المغرب، … وهي ليست فقط أقدم كليات العالم بل هي الكلية الوحيدة التي كانت ملتقى طلبة العلوم السامية في تلك الأزمنة حيث لا يعرفون من الكليات إلا الاسم، ولذلك كان الطلبة يتواردون عليها من أنحاء أوربا وإنجلترا (وبلاد العرب) للانخراط في سلك طلابها وتلقي العلوم السامية باللغة العربية مع الطلبة العرب والمسلمين.
واشتهر من بين أساتذة القرويين: ابن خلدون، وابن الخطيب، وابن حرازم، وابن باجة، وابن العربي، ويذكر التاريخ أن البابا سلفستر الثاني قد درس بالقرويين، وأنه تعلم فيها الأرقام العربية واستعمال الصفر، وأنه هو الذي أدخلها لأوربا، كما أن ابن ميمون والمؤرخ الإفريقي حسن الوزان المعروف بليون الإفريقي كانا من تلامذة القرويين.
واعتمدت موسوعة غينيس للأرقام القياسية، جامعة القرويين، كأقدم مؤسسة جامعية لا تزال تعمل في العالم، ويفوق عمر القرويين نظيراتها الأوروبية، حيث تحتل جامعة بولونيا، التي تأسست عام 1088، المركز الثاني في هذا الترتيب من حيث الأقدمية، وبعد ذلك تأتي جامعة باريس (1160)، وأكسفورد (1167)، وكامبريدج (1209)، وقد أنشئت جميعها بعد عدة قرون من تأسيس القرويين في المغرب.
وتشهد هذه المكانة الفريدة التي تتمتع بها القرويين على ثراء التراث الثقافي والتعليمي في المغرب، ما يذكر بالدور المركزي الذي لعبته المملكة في نقل المعرفة وتطويرها عبر القرون.
وتواصل الجامعة اليوم رسالتها التعليمية، فتجمع بين التقليد والحداثة، مؤكدة حضورها في المشهد الأكاديمي العالمي، منذ العصور الوسطى إلى اليوم.