أخبارقصص متحركة

إرث الأب وحب ليلى وغيرة أهل القرية

في قرية هادئة تحيط بها الجبال والسهول، عاش سالم مع والده التاجر الكبير “الشيخ منصور”، الذي كان أغنى رجل في القرية وأكرمهم. كان الشيخ منصور معروفًا بحكمته وكرمه، لكن الناس كانوا يُظهرون له الاحترام وفي قلوبهم بعض الحسد. كان سالم الابن الوحيد لمنصور، شابًا طيب القلب، محبًا للعزلة، وكان يقضي معظم وقته في التأمل والسير في الطبيعة، بعيدًا عن مجالس أهل القرية.

حين توفي الشيخ منصور، ورث سالم كل ثروته: بيوت واسعة، أراضٍ خصبة، وقوافل محملة بالخير. فجأة أصبح سالم أغنى رجل في القرية. بدلاً من أن يغيره المال، بقي سالم كما هو — هادئًا، حالمًا، محبًا للوحدة. لكنه كان كريمًا مثل أبيه، يساعد الفقراء ويُطعم الجائعين.

لكن أهل القرية لم يروا فيه رجلًا يستحق هذا الثراء. كانوا يتهامسون:
— “كيف لرجل مثله، يهوى العزلة ولا يجلس بيننا، أن يكون أغنى منا؟”
— “إنه مسحور، أو ربما يخفي سرًا!”

تفاقم الحسد حتى تحوّل إلى مؤامرة. اجتمع بعض كبار القرية وقرروا أن يتخلصوا من سالم. اتهموه بالجنون، وقالوا إن انعزاله وغرابة أطواره ستجلب الشؤم على القرية. وفي يوم مشؤوم، واجهوه في ساحة القرية:
— “لم نعد نريدك بيننا، خذ ثروتك وارحل!”

لم يُحاول سالم الدفاع عن نفسه. شعر أن قريته، التي عاش فيها عمره، قد أصبحت غريبة عنه. أخذ بعض زاده وترك كل شيء وراءه — البيوت، الأراضي، والذهب — ورحل إلى المجهول.
سار سالم أيامًا وليالٍ عبر الجبال والسهول حتى وصل إلى الصحراء. كانت الشمس تحرقه نهارًا والبرد يلسعه ليلًا. كاد أن ينهار من التعب والجوع، حتى لمح من بعيد ضوءًا خافتًا. اقترب بحذر، فوجد خيمة صغيرة بيضاء تتلألأ تحت ضوء القمر.

عند باب الخيمة، وقفت امرأة لم يرَ مثلها جمالًا. كانت ملامحها كأنها مرسومة بريشة فنان، وعيناها تشعان سحرًا غامضًا. خاطبته بصوت عذب:
— “من أنت، وما الذي جاء بك إلى هذه الأرض القاحلة؟”

أخبرها سالم قصته، وكيف طُرد من قريته رغم ثروته. استمعت إليه بحزن، ثم دعته للدخول. داخل الخيمة، وجد طعامًا لم يذقه في حياته، وشرابًا يروي عطشه. شيئًا فشيئًا استعاد قوته، وبدأ يتعرف على تلك المرأة. اسمها كان “ليلى”، وكانت تعرف الكثير عن أسرار الصحراء وحكمتها.

لم يمضِ وقت طويل حتى وقع سالم في حبها. كانت مختلفة عن كل النساء اللاتي عرفهن. طلب منها الزواج، لكنها نظرت إليه بعينين حزينتين:
— “قبل أن توافق، عليك أن تعرف حقيقتي… أنا لست بشرًا، أنا جنية تعيش في هذه الصحراء.”

رغم صدمته، كان حبه لها أقوى من أي خوف. قال:
— “لا يهمني إن كنتِ جنية أو بشرية… ما أعرفه أنني أحبك.”

وافقت ليلى، وتزوجا. عاشا في سعادة، لكنها حذرته:
— “إياك أن تُخبر أحدًا بحقيقتي، مهما حدث.”
بعد سنوات من السعادة، شعر سالم بالحنين إلى قريته. قرر أن يزورها ليعرف ما حدث بعد رحيله. حين عاد، اندهش أهل القرية لرؤيته. كيف عاد بعد كل هذه السنوات، وبدا أكثر ثراءً وسعادةً؟ وحين رأوا زوجته ليلى، ازداد حسدهم — لم يروا امرأة بجمالها من قبل.

بدأت الأسئلة تنهال عليه:
— “من هذه المرأة؟”
— “من أين جئت بها؟”

في لحظة غضب، نسي سالم وعده:
— “إنها ليست امرأة عادية… إنها جنية جميلة!”

حين عاد إلى خيمته في الصحراء، وجدها فارغة. نادى على ليلى، لكن لم يُجبه سوى الصمت. انتظر أيامًا، ثم أسابيع، لكنها لم تعد. أدرك أن إفشاء سرها هو ما أبعدها عنه.

ومنذ ذلك اليوم، بقي سالم في الصحراء، ينادي على ليلى كل ليلة.
وكل ليلة، لم يسمع سوى صدى صوته يعود إليه، حزينًا كسكون الرمال.
مرت السنوات، وسالم لا يزال في الصحراء، يحن إلى لحظات سعادته التي عاشها مع ليلى. أصبح جسده شاحبًا، وعينيه فارغتين من الأمل. كان يجوب الرمال بلا هدف، يسترجع كل كلمة قالتها له، وكل لحظة شعر فيها بحبها. لكنه عرف أن ذلك كان ثمنًا باهظًا لخطأه الفادح.

أما أهل القرية كانوا قد ندموا على طرده، لكنهم لم يعرفوا كيف يعيدون له ما فُقد. لم تكن الثروة ولا المال كافية لملء الفراغ الذي تركته ليلى في قلبه. وعندما تساءلوا عن مكانه، كانوا يظنون أنه قد اختفى في الصحراء للأبد.

أما سالم، فقد أصبح أسيرًا لذكرياته وحبه الضائع. كان ينادي على ليلى في كل ليلة، وفي قلبه شعور مستمر بالندم على ما حدث. لم يعد لديه شيء سوى صدى صوته الذي يتردد في المسافات اللامتناهية.

كان الصمت هو الرد الوحيد الذي يلاقيه. ومع مرور الوقت، أصبح صوت الرياح هو الرفيق الوحيد له، يحمل معه همسات قلبه التائه بين الرمال، ليظل ذكرى منقوشة في قلبه، تظل حية حتى آخر أيامه في تلك الصحراء القاحلة.
مرت السنوات، وسالم ما زال وحيدًا في الصحراء. أصبح رجلًا ذا لحية بيضاء وشعر شاب قبل أوانه، لكن عينيه ظلتا تحملان نفس الحزن والرجاء. كل ليلة كان يجلس على تلة رملية ينظر إلى القمر، الذي كان يذكره بعيني ليلى، وينادي باسمها:

— “ليلى… سامحيني… عودي إليَّ…”

لكن الصمت كان جوابه الدائم.

رغم وحدته، لم يعد سالم إلى قريته أبدًا. لم يكن له فيها مكان بعد أن عرف طمعهم وحسدهم. فضّل البقاء في الصحراء، حيث التقى بحبه الحقيقي، وأمضى حياته ينتظر عودته.

وفي ليلة هادئة، حين كان القمر بدرًا كاملًا يضيء الرمال، جلس سالم في مكانه المعتاد. أغلق عينيه وابتسم، وكأن روحه شعرت بالسلام أخيرًا. وفي ذلك الليل الهادئ، رحل سالم عن الدنيا، تاركًا خلفه حكاية عشق وندم يتناقلها أهل القرى، عن الشاب الذي فقد كل شيء لأنه أفشى سر الحب.

ويُقال إنه في الليالي القمرية، حين تهب الرياح في الصحراء، يُسمع صوت نداء خافت:

— “ليلى…”

ويرد عليه صوت نسائي حزين:

— “سالم…”

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button