أخبارالرئيسيةفي الصميم

التوثيق والأموال السوداء

نسجت المملكة المغربية شراكات استراتيجية مع مختلف الفاعلين الاقتصاديين الدوليين تثمينا لدورها المحوري كجسر يربط بين الصين والأسواق الغربية، برؤية تتطلع إلى اكتشاف مجالات جديدة للتكامل والتعاون في الابتكار التكنولوجي والاقتصاد الرقمي تدعيما لاستراتيجيتها الاقتصادية المتميزة بالمرونة والذكاء، لتطوير اتفاقيات قوية تضمن مصالح متبادلة وتعزز التعاون في محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، ووقعت تحالفات تخدم عموم الاستقرار والتنمية أداءا لدورها المحوري في تعزيز التعاون الدولي ودعم الشراكات الاستراتيجية، كما انخرطت في مجابهة كل ما يعرقل التطور والتكامل، وكل ما يقلل فرص الاستقرار، ويهدم أسس النماء، كالجرائم العابرة للقارات بوصفها السبب المباشر لجريمة تبييض الأموال التي لا حدود لها جغرافيا ولا زمنيا، غايتها تطوير الضوابط والأنظمة الرقابية تأسيسا لسابقة قد تجعل من المملكة نموذجا يحتذى به.                                                                           

بقلم/ادريس بوسباطة

فخطر جريمة تبيض الأموال تَنَوَّعَ بين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وقد أصبح هذا الأمر في غاية الوضوح على الرغم من قناعة البعض أنه لا فرق بين الأموال الملوثة والأموال النظيفة، بحجة خدمتها التنموية وتفعيلها للرواج الاقتصادي، إلا أن إضعاف  قدرة السلطات على تنفيد السياسات الاقتصادية بكفاءة، والمس باستقرار سوق الصرف الأجنبي، وتهديد الاستقرار المالي والمصرفي، ووجود خلل في توزيع المال والثروة داخل الاقتصاد، والتضخم وارتفاع المستوى العام للأسعار كلها مؤشرات تنذر بتعميم اقتصاد الظل او التستر التجاري، وهدا تخريب شامل وكامل للاقتصاد والمجتمع والسياسة، وأحد عوامل انتشار الفساد السياسي والإداري واستغلال النفود فيه، حيث نفاذ المجرمين إلى المناصب السياسية المركزية بالدولة ميسر، والمس بهيبة الدولة مضمون، وتقويض سمعتها أمام المؤسسات الدولية والمحافل العالمية جلي، والنتيجة المباشرة انتشار الفساد الوظيفي والرشوة وشراء الدمم، وتدعيم الفوارق الاجتماعية، والهدم الكامل لمنظومة المجتمع الأخلاقية حيث يصبح غاسلو الأموال سادة بثرائهم وسلطانهم.

ووعيا بضرورة مكافحة غسل الأموال كضرورة وطنية وتسجيل الحضور في الجهود العالمية لمكافحة سوابقها ولواحقها، بادرت المملكة بتدشين حملات وقائية، وتسطير ضوابط تشريعية، تحصينا للأمن الاجتماعي، ودعما للاستقرار المالي، لكون الدول ذات المخاطر العالية في مجال محاربة تبييض الأموال مصدرَ قلق للمجتمع الدولي بتشريعاتها الضعيفة وانتشار الفساد وغياب الرقابة الفعالة فيها، تبقى دول مشكوكا في سلامة نظامها المالي والمصرفي، وذات سجلات سيئة للتلاعب المالي الغير المشروع، حسب مؤشر “بازل”  لمكافحة غسل الأموال، وتصريحات البنك الدولي، وتصنيف مجموعة العمل المالي  لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، تزامنا وتوقيع العديد من الاتفاقيات لتسريع تفعيل توصيات العناية الواجبة استباقا للمخاطر الناشئة، كاتفاق التبادل الإلكتروني للمعلومات مع المديرية العامة للضرائب الذي مكن الهيئة الوطنية للمعلومات المالية من تسجيل 5171 تصريحا بالاشتباه خلال سنة واحدة فقط، أحيل على إثرها 54 ملفا على النيابة العامة بكل من الرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش، كما أن إجراء رقمنة الدفع  لمراقبة التداول النقدي التي تجاوز 400 مليار العام الماضي أي 30% من الناتج المحلي الإجمالي؛ لتحقيق العدالة الجبائية ومحاصرة التهرب الضريبي وضمان الشفافية المالية والمساهمة العادية في تمويل السياسات العامة، زيادة على تعزيز عملية الدفع عبر الهواتف المحمولة المتوفرة لوصف تطبيقاتها بالبسيطة والآمنة، وإنشاء محفظة رقمية وطنية بتقنيات حديثة مثل….. الضامنة لسهولة الاستخدام والشمولية الكاملة، ناهيك عن رقمنة القطاع العام لتكريس الدفع الإلكتروني الإجباري للإجراءات الإدارية ودمج الاقتصاد الغير الرسمي تشجيعا للفاعلين فيه على الاندماج في النظام الرسمي تعزيزا للبنية التحتية والشمول المالي، وأخيرا التشريعات والتثقيف المالي المحفزة  للتحول الرقمي كفرض حدود على المبالغ النقدية في المعاملات التجارية وخصوصا شراء العقارات مواكبة لتطور تنفيد جريمة غسل الأموال المرتكزة على استغلال التطور التكنولوجي، وخدمات البنوك والمؤسسات المالية.

هذا والتوثيق العصري كمهنة قانونية وقضائية أول شريك رئيس للمملكة في سياسات وخطط التصدي لمعضلة غسل الأموال، سيرا على نهجه التاريخي في مجابهة كل أشكال التلاعب بالأموال: من تزوير ونصب واستيلاء على عقارات الغير الذي تطلب تدخلا ملكيا وتشكيل لجنة خاصة، وتماشيا وخصائص شرعيته كأحد أركان الأمن التعاقدي والقانوني، وأول مصادر الاستقرار في تداول المال والأعمال وحماية المراكز القانونية، وأقوى الحجج المكتوبة الفاصلة في النزاع، الضامنة لمناخ اقتصادي سليم مستقطب لاستثمار منتج للثروات، ومكوّن أصلي لسياسة الدولة وأدواتها القانونية ومقارباتها الوقائية والزجرية الآمرة بتفعيل واجب الالتزام باليقظة، والتصريح  بالاشتباه كما سطر في سنة 2007 و 2017، والمراقبة الداخلية وفق ما أرساه المنتظم الدولي من تدابير، وما سنته المملكة من أدوات قانونية أهمها قانون 05 -43، الذي سجل وعيا عميقا لمنتسبي مهنة التوثيق العصري بالدور التشاركي المنتظر، وشعورا حضاريا بواجب الانخراط  في تفعيل السياسات العامة.                                         

وتفعيلا للدور التشاركي لموثقي المملكة تأسيا بسلفهم من الرواد، وتعميما للوعي بخطورة وآثار جرائم تبييض الأموال، أطلقت العديد من المبادرات العملية واللقاءات العلمية، أبرزها اللقاء الدولي المنظم سنة  2014 من طرف المجلس الوطني للموثقين، لتصنيف مؤشرات الاشتباه، وتكريس العقد التوثيقي كأداة لضبط تداول العملة، تلته تفاعلات وزارية-مهنية تعريفا بمقتضيات القانون وتذكيرا بالالتزامات المهنية المفروضة بالمناسبة على الممارسين للتوثيق العصري طبقا لقانون32-09، بحضور الأستاذ عبد اللطيف يكو بوصفه رئيسا للهيئة الوطنية للموثقين تدعيما لمبادرة وزارة العدل بالمعهد العالي للقضاء بالرباط، وقد كانت أهم مخرجاتها إعلان التفاعل الفعال والسريع لموثقي المملكة معلنا عن إجراءات عملية أهمها توفير قاعدة بيانات إلكترونية لكشف المعاملات التي تحوم حولها شبهة غسل الأموال، ووضع نظام تسيير بدواوين الموثقين مستشعر للمخاطر بهدف تثبيت حجية العقد التوثيقي كحجة سليمة لتداول الأموال، مذكرا بأن واجب التصدي لهذه الآفة يقتضي مقاربة شمولية متعددة الأساليب والشركاء.

واستمر امتثال الموثق لواجبه الوطني في الدفاع عن الاختيارات الاستراتيجية للمملكة، وانخراطه الغير المشروط في المجهودات المبذولة لحماية مناخ الاستثمار بالمغرب، ودعم مصداقيته، لتعزيز ثقة المستثمر الوطني، وجلب الفاعل الاقتصادي الأجنبي، وبناء عليه سارع المجلس الوطني للموثقين بكل مكوناته لاستئصال  كل اعتداء على الاقتصاد والمجتمع والسياسة نتيجة تفشي ظاهرة تبييض الأموال، وقد كان للرسالة الموجهة بتوقيع الأستاذ هشام صابري بصفته رئيسا للهيئة الوطنية للموثقين آنذاك إلى موثقي المغرب باعتبارهم مخاطبين بمقتضيات قانون 43-05 إشعارا بخطر استغلال التطور الإلكتروني، وتحسيسا بمسؤولية الموثق مشاركا أو مساهما، غايتها الحث على توخي الحيطة والحذر ورفع منسوب اليقظة، واعتماد نظام تدبير المخاطر، ومد جسور التواصل والربط مع وحدة معالجة المعلومات المالية لعزل كل محاولة كلما تعززت دلائل الاشتباه، تنفيذا لدورية وزير العدل، واعتبارا للتوصيات المسطرة لتحصين سمعة المملكة ضد كل ما يمس الاعتبار الواجب لها من لدن المستثمر الاجنبي والمؤسسات الائتمانية الدولية، علما بأن التفويتات المنصبة على العقارات والأصول التجارية عبر دواوين الموثقين التي تزيد عن  1848 ونيف بعدد يزيد عن  3500 عقد سنوي، قد يشكل معبرا للتنفيد المادي لجريمة غسل الأموال بمراحلها الثلاث: الإيداع والتمويه والدمج، باستغلال الوسائل والتقنيات الإلكترونية الحديثة التي تعتبر فرصة غير مسبوقة أمام الراغبين في تنفيد جريمة غسل الأموال وتمرير المعاملات المالية والتسويات والمدفوعات، والحال ان انتشار استخدام الأنترنيت اختفى معه مشكل النقل المادي لكميات الأموال والتعرف على مصادرها وأصحابها اصالة ونيابة، وسهّل عملية التنفيد نوعا وعددا وقيمة بالسرعة المطلوبة، ومن أي مكان في العالم، دون الانتقال إلى مقر المؤسسات المالية، ودون التعامل وجها لوجه مع ممثليها، لتوفر حماية البيانات السرية للأشخاص والجهات تبعا للوسائل والأساليب الموظفة، مع إمكانية إجراء المعاملات بأسماء صورية او استعمال شبكات الأنترنيت المظلمة التي لا تسمح بالتعرف على المستخدم الحقيقي، وهدا ما تنبأ به التوثيق العصري قبل وبعد أن أصبح  المغرب عضوا بالاتحاد الدولي للموثقين في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وحلل أسبابه الموضوعية وأصدر توصياته بمؤتمر الصخيرات سنة 2010، تحت رئاسة الأستاذ التهامي الوزاني رئيسا لهيئة موثقي المغرب آنذاك، والأستاذ….. الصفريوي رئيسا للجنة الشؤون الإفريقية، التي تعتبر مرجعا في سياسات مجابهة  الجرائم المالية عبر التوظيف الإلكتروني.

وايمانا بأن أفضل الحلول تأتي بالعمل الجماعي، وبتخطيط استراتيجي، وأبعاد علمية وسياسية، وتحت شعار القولة الملكية “لنجعل إفريقيا تثق في إفريقيا ” افتتح الأستاذ هشام صابري بصفته رئيسا للهيئة الوطنية للموثقين آنذاك، المؤتمر 33 للموثقين بمراكش، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة وبحضور أكثر من 1100 مشارك بجنسيات مختلفة  ممثلين ل 17 هيئة توثيق لمختلف الدول إفريقية الأعضاء بالاتحاد وأجانب عن الاتحاد من مختلف الدول الأوروبية، وتتبعت أعماله ومناقشاته كل دول العالم، بآثار بعيدة المدى وقرائن ودلالات على العلاقة المتلازمة للمملكة وضرورة رقمنة الاقتصاد خدمة للقطاعات الحكومية والقطاع الخاص، ووقوفا ضد الجريمة المنظمة بكل أطيافها لضمان كل شروط نجاح رهان الأمن التعاقدي كأحد مؤشرات دولة الحق والمؤسسات، وقد انبهر كل المؤتمرين بتطور تجربة الرقمنة بالمغرب في خروجها عن النموذج التقليدي وتقديم ملف المؤتمر وشارة حضور رقمية مصنوعة مغربيا 100%100، تنزيلا للفكرة التي تبناها رئيس المجلس الوطني للموثقين بنص خطاب اكتوبر 2023 ببرازيليا بمناسبة ملتقي الاتحاد الدولي الذي ضم 91 دولة، مؤسسا لامتداد خارطة طريق بصيغة إفريقية ولمسة دولية، تنوعت قضاياها، وتبادل وجهات النظر فيها، وتدارست مختلف الأساليب التشريعية الممهدة  للتوظيف الإلكتروني السليم، وجعله إحدى الآليات لمحاصرة الجريمة المنظمة بطرق علمية وإجراءات عملية تمخضت عن تجارب دولية أعطت نتيجة فعالة في مجابهة ظاهرة الأموال السوداء، سطرت كمخرجات لمدها بالحياة بإجراءات عملية، وحماية نفادها بنصوص قانونية.

وامتدادا للرسالة المعاصرة للتوثيق العصري، وظف الأستاذ محمد رشيد التدلاوي الكاتب العام للمجلس الوطني لهيئة الموثقين بالمغرب كل الجهود والاختيارات لمواكبة حسن تفعيل ما سبق ذكره من توصيات وإجراءات، نشرا للوعي بها، وبناءا لعلاقات جديدة مع عدد من الفاعلين بمختلف تخصصاتهم واهتماماتهم، لتجديد الرؤى وتوحيد المفاهيم حول ظاهرة غسل الأموال كظاهرة استحوذت على عناية الجميع في جميع أنحاء العالم، خصوصا النخب ذات الصلة من مهنيين وخبراء وذوي الاختصاص ومفكرين.

وسجلت المجالس الجهوية للموثقين انخراطها في مسلسل الحملة التحسيسية بدوافع ومسببات ظاهرة غسل الأموال القذرة لفهم حيثياتها ومقاصدها لراهنيتها وللاهتمام الدولي البالغ بها، وسبل تجفيف منابعها قطعا مع كل ما يخرب الاقتصاد ويمول الإرهاب، حيث ذكر الأستاذ….. العزوزي رئيس المجلس الجهوي للرباط في كلمته  أمام موثقي مدريد في أكتوبر 2024 بالواجب المهني لممارسي مهنة التوثيق العصري المجسد في تغليب سلامة القانون وسيادته لضمان شفافية وتخليق المعاملات المبنية على تجديد المعرفة القانونية وتعميق الاطلاع التقني، وتكثيف التنسيق مع السلطات القضائية وباقي السلطات المختصة، حفاظا على مكانة وسمعة التوثيق وتثمينه لربح رهان جلب الاستثمار والأمن التعاقدي والإسهام في شفافية المبادلات لدى الدول والمجموعات الاقتصادية، مؤكدا على ضرورة تبادل الخبرات والمعلومات بين الفاعلين المعنيين لتوحيد خط مجابهة الجريمة المنظمة العابرة للحدود والمؤطرة لاقتصاد وهمي يسمح بتبييض الأموال السوداء من خلال صفقات العقارات والأصول التجارية، وعبر التجارة والتعتيم والعملات المشفرة والحسابات الخارجية، وختم اللقاء بتوقيع بروتوكول للتعاون بين البلدين المغرب وإسبانيا قصد منع كل تزوير أو غش في العقود التوثيقية لضمان حجيتها القطعية في تقاطع الحقوق وضمان المراكز القانونية.                                                                                       

ويستشف من كل ما سبق -على سبيل المثال لا الحصر- أن التوثيق العصري بالمغرب سجل حضورا متميزا في الندوات والمؤتمرات واللقاءات وكل الحملات التحسيسية، وقدم مقترحات ومبادرات نوعية أوصت بتجديد الفهم والقراءة لظاهرة تبييض الأموال كجُرم تحدى السلطات القضائية والمالية حول العالم، وتحليل دقيق للأسباب والدوافع، وتهييء خطوات عاجلة للاحتواء من تشريع شامل يحدد تفاصيل التزام الجهات المسؤولة عن التتبع والمراقبة، وإنشاء وحدات التتبع خاصة بشركات العقارات، والمؤسسات البنكية، وشركات التأمين، ومكاتب المحاسبة، وتقوية المشاركة في الجهود الدولية والمبادرات الإقليمية الرامية إلى تطويق واجتثاث مسببات وبواعث منظومة غسل الأموال، ناهيك عن التأطير الفكري، وتوظيف الخبرة المهنية، وتجنيد السبل المادية مع المؤسسات والجهات المعنية لاكتشاف ومنع الجريمة المنظمة التي يصعب مجابهتها نظرا لما وصلت إليه من توظيف دقيق للتكنولوجيا مكنتها من النفاد إلى الاقتصاد والمجتمعات وإفساد النظم المالية بها، وتحطيم قيمها المجتمعية، مؤمنا بأن منع انتشار هدا السرطان الاقتصادي هو انتصار حقيقي على التخلف الاقتصادي والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، ودعم للاقتصاد الرقمي بمهنة عالية الاستخدام للتكنولوجيا وأحد ركائز التنمية الاقتصادية لبلد يعتبر نموذجا راندا في عالم تداول الأموال والأعمال وفقا للتوجيهات  الملكية وشهادات الدول والمنظمات الرائدة في الاقتصاد والخدمات .                                                                                           

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button