رحلة الشوق في سماء الصيام

بقلم: مولاي الحسن بنسيدي علي
كان الصبح يطلّ برأسه من خلف ستائر الليل، يغازل الأرواح التائهة في صمت السحَر، لكنني لم أكن بحاجة إلى مزيد من الضوء، فالشوق كان يضيء داخلي بلهبٍ لا ينطفئ. ثاني أيام رمضان، ثالث أيام مارس، وكأن التاريخ لم يعد مجرد أرقام، بل صار جزءًا من نبضي، من لهفتي التي امتدت كظلّ طويل لا نهاية له.
تحاملتُ على نفسي، وجفاني النوم. كان الحنين يطوف في أروقة القلب، يُلملم الذكريات، ويُهدهدها بنبض الشوق. ابنتي… حناني، قطعة من روحي، حضنٌ تركت فيه بعضًا من نفسي، وأحفادي… الامتداد الذي أرى فيه ملامحي وقد أعادها الزمن شابةً من جديد. على مدار الساعة، كانت أصواتهم تسبق دقات قلبي، تملأ فراغ البعد بصدى السؤال المنتظر: “متى تصل؟”
لم أنتظر الشمس حتى تتوسط السماء، فما بين صلاة الفجر ونور الصباح، كنت قد حزمتُ الشوق في حقائب الرحيل. أخذتُ بيد زوجتي، واستقللنا القطار إلى فاس. ست ساعات على السكة، لكنها في روحي كانت ستة أعوام من المسير في صحارى الاشتياق. لم ينل الصيام منّي رغم رخصة الإفطار، فالجوع الحقيقي كان للحظة اللقاء، للعناق الأول بعد الفراق الطويل.
في مطار فاس، وجدتُ مشهدًا مختلفًا. كان النظام والاهتمام بالجودة يتركان انطباعًا مدهشًا، لكن الأسعار هناك كانت قصة أخرى… كيف لفنجان قهوة بالحليب أن يصبح بنصف مائة درهم؟ وملفايا بخمسة وخمسين؟ كأنهم لا يبيعون المشروبات والحلوى، بل الذكريات مع كل رشفة وقضمة!
انتظرتُ وقت الإفطار في ردهات المطار، أراقب الوجوه العابرة، كلٌّ يحمل قصته، وكلٌّ يُخبّئ شوقًا ما. حبات تمر، كوب قهوة، سيجارتان، ونداء الرحلة. صعدنا الطائرة، وما هي إلا ساعة وبعض الدقائق حتى تلقّفتنا فالنسيا بأمطارها الباردة.
لكن لا مطر يُطفئ نار الاشتياق… ولا برودة تُقاوم دفء الأحفاد حين يعانقونك بلهفة، كأنهم يخافون أن تفلت منهم اللحظة. هناك، بين ضحكاتهم وعيونهم التي تشبهني، شعرت أن الرحلة لم تكن إلا طريقًا للقلب، وأن المسافات، مهما امتدّت، تظلّ صغيرة أمام خطوات الحبّ.
…..
مولاي الحسن بنسيدي علي