تاسع رمضان: استرجاع المغرب للخزانة الزيدانية من إسبانيا ونهاية واحدة من أطول السرقات العلمية في التاريخ

قبل 12 سنة بالتحديد، في التاسع من رمضان سنة 1434 هـ /2013 م، نجحت المملكة المغربية في استرجاع مقتنيات «الخزانة الزيدانية» من إسبانيا وإعداد نسخ رقمية منها خدمة للبحث العلمي، بعد أكثر من أربعة قرون من المطالبة والمفاوضات، إليكم القصة:
إنها واحدة من أبرز القصص الغريبة والمؤسفة للسرقات العلمية في التاريخ، حيث تعرضت الخزانة السلطانية الزيداينة للسرقة على يد الإسبان خلال الفترة المضطربة التي شهدها المغرب في مطلع القرن السابع عشر، إبان حكم الدولة السعدية، مما أدى إلى فقدان إرث علمي ضخم للمغرب.
حدثت هذه السرقة بعد وفاة السلطان القوي أحمد المنصور الذهبي عام 1603م، وما أعقب ذلك من صراعات بين أبنائه الثلاثة حول السلطة، فكانت خزانة السلطان المولى زيدان بن أحمد المنصور (1603م-1627م) من بين ضحايا هذه الأزمة، حيث تعرضت للنهب على يد قراصنة في البحر، لتظهر بعد ذلك ضمن مقتنيات دير الإسكوريال (El Escorial) في مدريد بإسبانيا.
وعلى الرغم من المحاولات المتكررة التي بذلها سلاطين المغرب لاستعادة هذا الكنز الثقافي والعلمي المسروق، فقد ظلت آلاف المخطوطات التي كانت جزءًا من الخزانة الزيدانية محفوظة في الإسكوريال، وتشكل هذه التحف التراثية إحدى أهم المجموعات العربية هناك.
وتعود أسرار المجموعة الزيدانية الثمينة إلى ما كان السلاطين المغاربة سائرين عليه في نهج جمع الكتب ونسخها وإنشاء المكتبات، ومنهم سلاطين الدولة السعدية الذين برز منهم السلطان السعدي مولاي زيدان، حيث نجح في تكوين خزانة ضخمة تضم آلاف الكتب والمخطوطات التي جمعها على مدار حياته، وقد أثرى جزءًا كبيرا من مكتبته بما ورثه عن والده السلطان أحمد المنصور، المعروف بشغفه بالعلم والعلماء واهتمامه البالغ بالكتب، فقد جمع أحمد المنصور عددا كبيرا من الكتب النادرة في تخصصات علمية متنوعة، استطاع الحصول عليها من خارج البلاد، ويذكر محمد الصغير اليفرني في كتابه نزهة الحادي بأخبار ملوك الحادي أن أحمد المنصور كان له ” عناية تامة باقتناء الكتب والتنافس في جمعها من كل جهة: فجمع من غريب الدفاتر ما لم يكن لمن قبله، ولا يتهيأ لمن بعده مثله “.
وقد أسهم هذا الشغف السلطاني بالكتب وجمعها في تشكيل خزانة ملكية ضخمة خلال العهد السعدي، ورثها المولى زيدان عن والده أحمد المنصور، بالإضافة إلى مكتبتي أخويه أبي فارس والمأمون بعد وفاتهما، فكانت هذه المكتبة بحسب ما أورد أحمد شوقي بنبين في كتابه تاريخ خزائن الكتب بالمغرب ” أول مجموعة ملكية لم يشهد لها مثيل، فقد كانت كل الكتب تقريبا إما تحفا في فن الخط، أو منتسخة بخط أعلام مشهورين، أو نسخا بخط أصحابها “.
ولما نشب الصراع بين أبناء السلطان أحمد المنصور الثلاثة: زيدان، وأبو فارس، وأحمد الشيخ المامون، واشتعلت بينهم حرب ضروس استمرت قرابة عشر سنوات، تمزق خلالها المغرب إلى مملكتين متنافستين: مملكة مراكش تحت قيادة مولاي زيدان، ومملكة فاس بزعامة محمد الشيخ المامون، وفي خضم هذه الفتنة، تفجرت ثورة قادها الفقيه الصوفي ابن أبي محلي، الذي تمكن من اقتحام مراكش، عاصمة حكم مولاي زيدان، عام 1612م، فلم يجد المولى زيدان بدا من الفرار من عاصمته مراكش، حاملا معه حاشيته وثرواته، وعلى رأسها خزانته الثمينة، متجها نحو منطقة سوس عبر مدينة آسفي، ولتنظيم المقاومة واستعادة عاصمته من قبضة ابن أبي محلي، قرر الانتقال بحرا إلى سوس، فاستعان بباخرتين للوصول إلى مدينة أكادير، وقد حملت إحدى السفن، وهي سفينة القنصل الفرنسي جان فيليب دوكستلان (Jean Philippe de Castellane)، ثروته وخزانته النفيسة، مقابل ثلاثة آلاف دوكا، في رحلة محفوفة بالمخاطر والأمل في استعادة المجد الضائع.

وفي يوم السادس عشر من يونيو عام 1612م، رست السفينة عند ميناء أكادير، لكن ربانها أبى أن يفرغ حمولتها من الخزانة الثمينة وثروات السلطان قبل أن يتسلم أجره البالغ ثلاثة آلاف دوكا، وبعد ستة أيام من الانتظار العقيم، قرر القبطان كستلان وطاقمه الفرار بالمحتويات تحت جنح الظلام، غير أن الأقدار، بتقلباتها الغريبة، أوصلتهم بعد أيام إلى مياه مدينة سلا، حيث واجهوا أربع سفن قرصنة إسبانية، وما إن شاهدتهم تلك المراكب حتى شرعت في مطاردتهم، حتى استولت على السفينة بما تحمله من كنوز السلطان السعدي، ومن بينها سبعون حملا من الكتب العربية النفيسة.
وكانت المكتبة الزيدانية تحوي أربعة آلاف وعشرين كتابا، جلها مزين بأغلفة فاخرة وزخارف بديعة، وتضمنت عددا كبيرا من المصاحف الشريفة، بعضها مذيل بتفاسير، وبعضها خالٍ منها، كما ضمت مؤلفات في الفلسفة والشريعة والسياسة، فضلا عن كتب في المفردات والطب والجراحة، وقد أُرسلت هذه الخزانة أولا إلى لشبونة في البرتغال، التي كانت آنذاك تحت سيطرة التاج الإسباني، قبل أن تنقل إلى خزانة دير الإسكوريال في مدريد، في عهد الملك فيليب الثالث، وفي السادس عشر من يونيو عام 1671م، التهمت النيران جزءا كبيرا من هذه الكنوز الثقافية في حريق شب بدير الإسكوريال، وتشير بعض الروايات إلى أن ما نجا من المكتبة الزيدانية بعد هذا الحريق لم يتجاوز ألفي مخطوط، لتبقى شاهدا على حضارة ضائعة وكنوز معرفية أتت عليها نيران الزمن.
ولما بلغ السلطان مولاي زيدان نبأ اختطاف سفينة القنصل الفرنسي، تحرك بسرعة وحزم لاسترداد كنوزه المسلوبة، فأقسم أن يسجن كل الفرنسيين الموجودين في المغرب آنذاك، وأرسل سفيرا إلى الأراضي المنخفضة (هولندا)، وإلى ملك فرنسا لويس الثالث عشر، وإلى أمير إسبانيا، الذي اشترط إطلاق سراح كل الأسرى الإسبان المحبوسين في المغرب، إلا أن كل هذه الجهود المضنية التي بذلها مولاي زيدان لم تجد نفعاً في استعادة المكتبة، وبعد وفاته عام 1627م، حاول خلفاؤه من الملوك السعديين مواصلة المساعي لاسترداد الخزانة، لكنهم لم يفلحوا في ذلك.

لقد تركت سرقة الخزانة الزيدانية أثرا موجعا طويل الأمد في نفوس سلاطين المغرب ونخبه العلمية، فانبروا على إثر ذلك لمحاولة استعادة هذه المكتبة العظيمة، إلى جانب غيرها من المخطوطات المغربية التي استولت عليها القوى الاستعمارية الإسبانية والبرتغالية في حقب سابقة، وهكذا، وفي عهد الدولة العلوية، استمرت المحاولات لاستعادة المكتبة الزيدانية والمخطوطات العربية الأخرى المحفوظة في إسبانيا، ففي عهد المولى إسماعيل (1672م-1727م)، أرسل الوزير ابن عبد الوهاب الغساني سفيراً عام 1690م للتفاوض بشأن إطلاق سراح المسلمين الأسرى في إسبانيا، واقترح على الملك شارل الثاني مبادلة خمسة آلاف مخطوط عربي من مكتبة الإسكوريال بالأسرى الإسبان، غير أن السفير عندما علم بالحريق الذي أتى على جزء كبير من مكتبة الإسكوريال عام 1671م، لم يلح على أن يحصل على مجموع المخطوطات، وقبل حسب أوامر السلطان بأن يستبدل المخطوطات بخمسمائة سجين مغربي، خاصة أمام رفض الإسبان التفاوض حول مخطوطات الإسكوريال، امتثالا لتوصية بابا الكنيسة الكاثوليكية الذي حظر إخراج أي كتاب من تلك المكتبة، وعلى الرغم من نجاح الغساني في إطلاق سراح الأسرى المغاربة، إلا أنه لم يتمكن من استرداد المخطوطات العربية، بما فيها الخزانة الزيدانية.
وشهد عهد السلطان محمد بن عبد الله (1757م-1790م) محاولات أخرى لاستعادة المخطوطات، حيث أرسل السفير أحمد المهدي الغزال الفاسي عام 1179هـ/1766م، ثم السفير محمد بن عثمان المكناسي عام 1213هـ/1779م. إلا أن جهود السفيرين باءت بالفشل أيضاً، بسبب تعنت الإسبان وإصرارهم على الالتزام بقرار البابا بعدم التصرف في مخطوطات الإسكوريال، مما جعل هذه الكنوز الثقافية تظل بعيدة عن أرضها الأصلية، شاهدة على تاريخ من الصراع والإصرار.
وبعد أن سمحت إسبانيا للمستشرقين والباحثين بالاطلاع على المخطوطات العربية المحفوظة لديها، انكب عدد من الباحثين على دراسة هذه الكنوز وفهرستها، ويعتبر الراهب الماروني اللبناني ميشيل كازيري (أو ميخائيل الغزيري) (Michel Casiri) أبرز هؤلاء الباحثين، حيث أصدر بين عامي 1760م و1770م فهرسا ضخما من مجلدين للمخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الإسكوريال، تحت عنوان: “المكتبة العربية الإسبانية في الإسكوريال”، وقد تمت ترجمة هذا الفهرس إلى العربية في عهد السلطان المولى سليمان العلوي، بناءً على اقتراح من الأديب والوزير المغربي محمد بن عبد السلام السلوي، وهي محفوظة اليوم في الخزانة الحسنية بالرباط .
وفي عام 1884م، قام المستشرق الفرنسي هارتنفج داينبورغ (Hartwig Derenbourg) بإعداد فهرس آخر للمخطوطات العربية في الإسكوريال، وأطلق عليه اسم “مخطوطات الإسكوريال العربية”، ثم جاء المستشرق الفرنسي الشهير ليفي بروفنصال (Levi Provençal) في عام 1928م لينشر جرداً تفصيلياً لتلك المخطوطات تحت عنوان: “قائمة المخطوطات العربية في الإسكوريال”.
وفي العام 2009 عقدت المكتبة الوطنية مع مكتبة الأسكوريال اتفاقية تسمح باستنساخ المخطوطات العربية، خاصة مقتنيات «الخزانة الزيدانية» وإعداد نسخ رقمية منها خدمة للبحث العلمي، وجرى تسليم النسخة في مثل هذا اليوم من العام 1434 هـ/2013 م، وهي متاحة الآن للاطلاع والدراسة في المكتبة الوطنية بالرباط، مما يعد خطوة كبيرة نحو حفظ التراث الثقافي المغربي وإتاحته للأجيال القادمة.