الحادي عشر من رمضان قبل 63 سنة : هكذا قرر الحسن الثاني إنشاء دار الحديث الحسنية

يعد تأسيس دار الحديث الحسنية من الإنجازات المغربية البارزة في الحقل الديني، أراد من خلالها الملك الراحل الحسن الثاني إحياء مجالس الحديث التي لطالما كان لها حضور مميز في حياة الملوك على امتداد تاريخ البلاد.
ويصادف اليوم الحادي عشر من رمضان ذكرى أول جلسة خاصة يعلن فيها الملك الراحل الحسن الثاني عن نيته في إحداث دار الحديث الحسنية، كان ذلك مساء يوم الإثنين الحادي عشر من رمضان عام 1383 هـ الموافق 26 يناير 1964 م، حيث استدعى المرحوم الحسن الثاني مكتب رابطة علماء المغرب برئاسة أمينها العام عبد الله كنون، وبحضور بعض الوزراء وكبار رجال الدولة، ليخبرهم عن نيته إنشاء دار للحديث بالعاصمة الرباط.
وقد تعددت أسباب تأسيس المرحوم الحسن الثاني لهذه المعلمة الدينية، ومنها ما يذكره الشيخ العلامة الحسين وجاج في مقال له بمجلة دعوة الحق العدد 257 شوال-ذو القعدة 1406/ يونيو-يوليوز 1986، حيث قال: ” وسبب تأسيسها أن مولانا أمير المؤمنين الحسن الثاني رأى بثاقب فكره، وسداد نظره أن فن الحديث وعلومه في المغرب وفي العهود الأخيرة من تاريخه بالخصوص، أصيب بما أصيب به في أقطار العالم الإسلامي من إهمال نتيجة الغزو الفكري والمادي لتلك الأقطار، وأن الشباب المسلم أخذ يتحول عن الثقافة الإسلامية إلى الثقافة العصرية الطاغية، وإن ما عرف به المغرب من علماء ومحدثين كبار منذ عصوره الأولى، أخذ ينقرض شيئا فشيئا، الأمر الذي جعله أعزه الله يستدعي مكتب رابطة علماء المغرب برئاسة أمينها العام سيدي عبد الله كنون الحسني مساء يوم الإثنين الحادي عشر من رمضان المعظم عام 1383 هـ ليتذاكر مع أعضائه في شؤون التربية والتعليم بالبلاد، ويبشرهم بحضور بعض الوزراء وكبار رجال الدولة بأنه عازم على إنشاء دار للحديث بالرباط، لتخريج المحدثين الشباب، وتكوين الأطر العليا للتعليم والقضاء، وإعداد البعثات الصالحة للقيام بواجب الدعوة في الأقطار الإسلامية والنائية.
وقد أبى السيد الأمين العام إلا أن يشكر أمير المؤمنين على بادرته الطيبة قائلا : “إن العلماء وقد كانوا يرون الإهمال الذي تمنى به هذه العلوم الإسلامية، لم يخامرهم شك في أن يوم بعثها على يد جلالتكم لابد آت، وأن العلماء سيقومون بكل طاقاتهم لمساندة هذه الحركة، وتحقيق أمل جلالتكم في بعث الثقافة الإسلامية، واللغة وهكذا أسست دار الحديث بالرباط، ودشنت يوم 27 رمضان 1383 هـ في الضريح الحسني، وبمحضر أمير المؤمنين الحسن الثاني الذي ألقى بهذه المناسبة الكريمة خطابا ساميا قال فيه على الخصوص :
“إن فتوحات المغرب العلمية لا تقل عن فتوحاته السياسية، فما أكثر أولئك العلماء الذين أسهموا في الحضارة العربية الإسلامية بالنصيب الأوفى، وما أوفر من ظلوا منهم عبر التاريخ يضربون أكباد الإبل في طلب العلم أو تلقينه مهما بعدت بهم الدار، أو شط المزار، وإن تراثنا الإسلامي والمغربي بصفة أخص لخليق بأن يحملنا على الاعتزاز به، ومن أجل ذلك فنحن مدعوون للمحافظة عليه، وشمله بمزيد العناية التي تقيه خطر الخفاء والاندثار”، إلى أن قال:
“وهكذا حرصنا في عدة مناسبات، وخاصة أثناء هذا الشهر المعظم من كل سنة، على أن نستقدم إلى جانبنا طائفة من العلماء المتخصصين في مختلف أطراف مملكتنا لإلقاء دروس الحديث والتفسير، تأكيدا للأهمية التي نوليها لاستمرار وانتشار ذلك النوع من الدراسات الإسلامية التي يتميز بها المغرب اليوم بين الأقطار الإسلامية الأخرى، والتي هي إحدى مميزاته الأصيلة، ولكي يستمر، هذا العمل، وضمانا لانتشاره وازدهاره، ندهش في هذه الليلة المباركة دار الحديث التي ستضم ثلاثين طالبا، سيتخصصون في الدراسة الإسلامية طيلة أربع سنوات، على أن يتزايد هذا العدد كل سنة، وخلال السنوات الأربع هذه سيلم الطلبة بفن الحديث متنا وسندا ورواية، ويتخصصون في كل ما يقوي من مداركهم وينمي معلوماتهم في هذا الفن الأصيل من قواعد وفروع وأصول، وما يقترن عادة بدراسة علم الحديث من دراسة متممة على أن يضمن لهم في نهاية الشوط مستقبلهم بالمساهمة في عدة مجالات نحن في حاجة إلى أن يعمل فيها خريجو هذا المعهد الذي نجتمع اليوم لتدشينه”.
وقد رد على مقال جلالته السامي فضيلة الأمين العام للرابطة بكلمة قال فيها: “مولانا صاحب الجلالة، في غمرة من النشوة الروحية والسرور النفسي تلقى شعبكم المومن، بشرى عزمكم على إحياء العلوم الإسلامية، وبعثها من مرقدها، وإنشاء دار الحديث بعاصمة مملكتكم الشريفة، وصلا لما انقطع أو كاد من سند هذا العلم، ورفعا لمناره الذي طمس بعد إنافة وإشعاع، إلى أن قال: ومن الثابت تاريخيا أن الرجوع في الدراسات إلى الأصول، إنما يكون في عصر الازدهار الفكري” فهذا عصر الموحدين، وهو أزهى العصور المغربية من حيث التقدم الفكري، كان لعلم الحديث فيه ظهور وانتشار، بحيث أفضى الأمر إلى أن أصبح هو مذهب الدولة، ونحى فقه مالك جانبا، بل أعلن الحرب عليه، حتى كانت كتبه ومدوناته، تحرق في الساحات العمومية بأمر الدولة، إمعانا في الأخذ بمذهب أهل الحديث والعمل به، إلى أن قال :
فدار الحديث التي تدشنها جلالتكم اليوم، هي جامعة علمية في مظهر معهد عال، وهو عمل يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:
من أحيا سنة من سنني أميتت أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب.
وقوله :
من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها، بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء، وفي رواية وكنت له شفيعا وشهيدا.
والطلبة الذين سيلتحقون بها هم بدورهم سيدخلون في قوله عليه السلام: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وقوله : ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة”.
وقد كان التدشين عظيما، حضره العلماء والوزراء وكبار الشخصيات، وصفق له الشعب المغربي المومن، ودعا لأمير المؤمنين، وكل من يعمل لإصلاح الدنيا بالجزاء الأوفى من عند الله، وقد سمعت بأذني شيخنا الكبير سيدي علال الفاسي، والعلماء يتبادلون التهاني أمام أمير المؤمنين وهو يقول : إن لم يكن من هذه الدروس إلا هذه البادرة الطيبة لكفى، تقديرا منه لهذه الدار التي يعلق عليها كبير الآمال.
وهكذا تم تأسيس دار الحديث في عهد مولانا أمير المؤمنين الحسن الثاني رائد التمنيات والمسيرات، وقد صدق الله ظنه، وحقق أمنيته من هذه الدار التي خرجت عددا من العلماء العاملين، والمحدثين الملتزمين، وقد أعاد التاريخ نفسه بإنشاء هذه الدار التي أيقظت الهمم، وحركت الضمائر، وأحيت العزائم، وأثارت الانتباه، وأنارت السبيل أمام المسلمين ليسيروا في طريق واحد، ويعملوا في صف واحد، صامدين في وجه المناورات والمؤتمرات، متحدين متعاونين حتى يصبحوا كما كانوا بالأمس القريب سادة العالم، وبناة الحضارة، وحماة العدالة، ورواد السلام”.