أخبارعين العقل

الإلهاء الممنهج

بقلم: الاستاذ مولاي الحسن بنسيدي علي

في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، حيث الغلاء يلتهم أرزاق الناس، وتدهور القطاعات الحيوية يدفع بالمواطن إلى مزيد من التذمر، تتبدد الأصوات الحقيقية في زحام التفاهة والإلهاء المقصود. هناك من يعيش واقعًا صعبًا، يبحث عن لقمة العيش وسط أزمات تتفاقم كل يوم، وهناك من يتقن فن تسويق السراب، يصنع قضايا وهمية تشغل العقول عن الأساسيات، فيما تتحول المقاهي إلى مسارح للنقاشات العقيمة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ما بين ارتفاع الأسعار، وتراجع الخدمات، وانتشار الإحباط الجماعي، يجد المواطن نفسه في دوامة من الأزمات اليومية. لكن بدل أن يكون هذا الوضع دافعًا لطرح الأسئلة الحقيقية، وإيجاد حلول جذرية، يتم توجيه الأنظار إلى معارك جانبية، وسجالات تافهة، وأحداث مفتعلة تُملأ بها وسائل الإعلام، وتغرق بها مواقع التواصل، وكأن الهدف هو إشغال الناس؛
و التضخم يلتهم الأجور، الأسواق تشهد قفزات جنونية في الأسعار، والبطالة تتفاقم، فيما يبقى الإعلام مشغولًا بمواضيع سطحية لا تقدم ولا تؤخر. بدل مساءلة المسؤولين ومحاسبة السياسات الفاشلة، تُبذل الجهود في خلق صراعات هامشية، وإشغال الناس بخلافات حول قضايا لا تمس صميم معاناتهم اليومية. ومن اجل ذر الرماد في العيون يضحى ببعض الاسماء في اطار اعفاءات من المھام فتلوك الالسن الموضوع

و واحدة من أبرز أدوات الإلهاء أيضا هي الزج بالدين في معارك لا علاقة له بها، حيث يُستخدم إما كوسيلة لترسيخ الجمود وإجهاض التفكير النقدي، أو كفزاعة تُرفع في وجه كل محاولة للإصلاح. بين من يسعى إلى فرض فهم متشدد للدين، ومن يوظفه لمحاربة أي دعوة للحداثة والعلمية، يُترك الناس في حيرة، يُدفعون دفعًا إلى سجالات تُبعدهم عن التفكير في واقعهم المعيشي والسياسي.

فأصبحت المقاهي.. الهروب الكبير من مواجهة الواقع.
إذ لا تكاد تخلو مدينة أو حي من المقاهي المكتظة، حيث تجري حوارات لا تنتهي حول السياسة والرياضة وأخبار المشاهير، في وقت تنهار فيه القطاعات الحيوية دون أن يجرؤ أحد على مساءلة الأسباب الحقيقية. كأن المقاهي أصبحت ملجأً للهروب من مواجهة الواقع، حيث تُستهلك ساعات من الجدل العقيم بدل أن تُستثمر في عمل نافع أو حراك جاد نحو التغيير.

فمن يمول ھذا الإلهاء؟ ومن يدفع ثمنھ؟
خلف هذه الفوضى الإعلامية والفكرية، هناك دائمًا جهات مستفيدة، تتحكم في صناعة الرأي العام، وتوجه اهتمامات الناس بعيدًا عن القضايا المصيرية. هناك من يدفع الأموال لصناع المحتوى ليخوضوا في سفاسف الأمور، وهناك من يرصد ميزانيات ضخمة لبرامج التسلية الفارغة، فيما المواطن العادي يدفع الثمن من حياته، وصحته، ومستقبل أبنائه.

فما العمل يا ترى؟
إن إدراك هذه التناقضات ليس كافيًا، بل لا بد من مقاومة هذا التزييف للوعي، وكسر دائرة الإلهاء الممنهج. لا بد من التركيز على القضايا الجوهرية، مساءلة المسؤولين عن الأوضاع المعيشية، والانخراط في نقاشات حقيقية تلامس هموم الناس. بدل استهلاك الوقت في المقاهي والجدالات التي لا تسفر عن شيء، ينبغي تحويل هذا الغضب الشعبي إلى وعي منتج، وسلوك عملي يسهم في التغيير.

لقد آن الأوان للخروج من دوامة العبث، والتوقف عن اللهاث وراء القشور، والالتفات إلى واقع ينزف، وإلى مجتمعات تحتاج إلى إعادة بناء حقيقية، تبدأ من الوعي وتنتهي بالفعل.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button