أخبارالرئيسيةثقافة و فن

وَيَنشُرُ رَحْمَتَه

بقلم:د. مهدي عامري

﴿وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِنۢ بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُۥ ۚ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ﴾- سورة الشورى:281.

-1-

صباح رمادي مشبع برائحة التراب المبتل…خرج سعيد من منزله. كانت السماء تفيض برحمة الله كأنها لم تمطر من قبل، بل كأنها تفرغ مخزونها من الماء منذ بدء الخليقة.

كان المطر غزيرًا، ينساب فوق الأسطح، ويجرف ما ترسب وتبقى من غبار السنوات السبع العجاف.سار سعيد بخطوات متثاقلة… ملابسه تلتصق بجسده، لكنه لم ينزعج.

كان يشعر بأن هذا المطر مختلف، وأن له وقعًا سحريًا في النفس، كصوت الأذان في قلب الليل، كدعوة قديمة للحياة لتُجدد خلاياها بعد نسيان طويل.

وأخيرًا وصل…

وعندما دخل إلى بهو الشركة، وجد زملاءه متحلقين عند النوافذ، يراقبون المشهد كما لو كان معجزة لم يتوقعوها. قال أحدهم بصوت مشوب بالعجب:

“سبع سنوات من الجفاف، وها هي ذي السماء تفيض أخيرًا!”ضحك الجميع… كانت ضحكاتهم أقرب إلى الدهشة منها إلى الفرح.

المطر اليوم ليس كأي مطر، إنه آية، معجزة، فيض إلهي، رحمة مهداة، قبس من النور، عطاء رباني بلا حدود… إنه ذكرى منسية في سجلات الزمن، كأن الله قرر أن يعيد القلوب إلى رشدها بفيض من رحمته.

وقف سعيد أمام مكتبه، راقب قطرات الماء التي تساقطت من معطفه إلى الأرض، مشكلةً بركة صغيرة تعكس ضوء المصابيح الباهتة. تأمل صورته في الماء، فشعر للحظة أنه يرى وجهًا جديدًا لم يعد يعرفه.

-2-

سبع سنوات من الجفاف…لقد تركت أثرها على البلاد والعباد، على البشر والشجر والحجر…تحولت الطرقات إلى مساحات من التشققات والجداول والبرك، أما الأشجار فصارت هياكل جرداء كأنها تنتظر نفخة الروح من جديد.

حتى الناس صاروا يسيرون برؤوس مثقلة، ووجوه شاحبة لا تظلها إلا شمس حارقة، ولا تهب عليها إلا رياح اليأس.لكن اليوم، تغير كل شيء.وقف الناس في الشوارع بعيون متسعة، يتأملون المطر كما لو أنهم يرونه لأول مرة. بعضهم رفع يديه إلى السماء شكرًا لرب العباد، بعضهم انحنى ليغترف الماء بكفيه كمن يروي عطشًا قديمًا، أما الأطفال فراحوا يركضون حفاةً بين البرك الصغيرة، يضحكون بفرح لم يُسمع منذ زمن بعيد.

في السوق، وقف الباعة مذهولين، يراقبون صناديق الفاكهة وهم يتساءلون: هل ستبدأ الأشجار في الإثمار من جديد؟ هل انتهى عهد القحط؟ حتى المذيع في الأخبار قال بصوت محايد:— “أمطار غزيرة تهطل على المدينة بعد سنوات من الجفاف. يُنصح بالحذر من الفيضانات.”لم يقل إن المطر نعمة، لم يقل إنه رحمة، بل اكتفى بأن يجعله مجرد خبر، مثل أي حادث أو أزمة.

تمتم سعيد، الذي كان يراقب الشاشة، ساخرًا:— “بعد سبع سنوات من الجفاف، يريدون منا الحذر من الماء!”علق زميله نبيل:— “لعلهم يخافون أن ننسى كيف كنا نعيش بدونه.”ضحك سعيد… ليس من الفرح، بل من الحزن.

-3-

في طريق العودة إلى المنزل، لم يحمل سعيد مظلته، بل ترك المطر يغمره. كان يشعر أن كل قطرة تمسح طبقة من الإرهاق عن روحه، كأنها تغسل خطايا الجفاف، ليس جفاف الأرض فحسب… بل جفاف القلوب.مرّ بجانب مسجد قديم، كانت أبوابه مفتوحة، وداخله جلس شيخ مسن يرتدي جلبابًا أبيض، يراقب المطر بهدوء. رفع الرجل بصره إلى سعيد وقال بصوت خافت:— “وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا…”توقف سعيد للحظة، ثم أكمل مبتسمًا:— “وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ… سبحانك ربي، سبحانك… سبحانك ما أعظم شأنك…”ابتسم الشيخ بحكمة، ولم يقل شيئًا.كان المطر يستمر في الهطول، وكان يغسل الشوارع من الغبار، بل كان يغسل الأرواح من النسيان.

-4-

عندما وصل سعيد إلى البيت، وجد زوجته واقفة عند النافذة، تراقب الشارع بعيون تلمع بشيء يشبه الرجاء. منذ سنوات، كانت تصلي كل صباح من أجل المطر، لكنها توقفت منذ عامين، كأن اليأس تسلل إلى قلبها.قال لها سعيد مازحًا:— “انظري، استجابت السماء أخيرًا!”التفتت إليه، ورمقته بنظرة طويلة قبل أن تهمس:— “اسكت… الله لطيف بعباده.”لم يعرف سعيد بماذا يرد. وقف بجانبها، يراقب المطر، يشعر أن العالم يتغير أمامه، أو ربما هو من بدأ يرى العالم بطريقة مختلفة.وفي الخارج، كان الأطفال يضحكون، وكانت قهقهاتهم وهم يتدافعون بين البرك أشبه ما تكون بصلاة الشكر.

-5-

لم يتوقف المطر في اليوم التالي، بل استمر في الهطول، كأنه يختبر قلوب الناس، كأنه يصهر أفئدتهم ويصقل أرواحهم…أما الشوارع التي كانت يابسة، فقد تحولت إلى جداول صغيرة، والمنازل العتيقة بدأت جدرانها تتشرب الماء، كما لو أنها تحاول أن تستعيد شبابها.وفي الشركة التي يعمل بها سعيد، امتلأت الأوراق بالتقارير التي تتحدث عن “مخاطر الفيضانات”، لكن لم يكن هناك تقرير واحد يتحدث عن الحياة التي عادت.عجيب غريب هذا الإنسان!ومر أسبوع كامل من المطر الغزير… وذات يوم، في اجتماع رسمي، سأل سعيد مديره:— “أليس هذا ما كنا ننتظره؟ المطر؟ ألا يعني هذا أننا سنقف على أقدامنا من جديد؟”نظر إليه المدير باستغراب، ثم قال ببرود:— “نحن هنا لنتعامل مع المخاطر، لا مع الأمنيات.”ساد الصمت للحظة، ثم استؤنف الاجتماع كما لو أن السؤال لم يُطرح.

-6-

وفي المساء، سار سعيد في شوارع المدينة، يراقب الحدائق التي استعادت لونها الأخضر، والمزارعين الذين عادوا إلى الحقول، والأطفال الذين تعلموا كيف يصنعون قوارب ورقية ويسابقونها في المجاري المائية.لكنه توقف عند مشهد رجل عجوز يجلس على حافة نهر صغير تشكل حديثًا، ويغمس يده في الماء كأنه يتحقق من وجوده.اقترب منه سعيد وسأله:— “هل كنت تتوقع أن ترى الماء هنا يومًا ما؟”ابتسم العجوز، ونظر إليه بعينين تحملان حكمة الزمن، وقال:— “الماء كان هنا دائمًا، لكننا نحن من اختفى.”أحس سعيد أن هناك معنى عميقًا في كلام الرجل، لكنه لم يستطع التعبير عنه.

-7-

مرت الأيام، والأسابيع، والشهور، الواحدة تلو الأخرى… وبدأ الناس يتأقلمون مع الواقع الجديد.-

وفي الليلة التي توقف فيها المطر أخيرًا، خرج سعيد إلى شرفته، ونظر إلى المدينة المبللة، واستنشق الهواء النقي، ثم ابتسم هامسًا لنفسه:— “تباركت وتعاليت… ربما المطر قد يكون توقف اليوم، لكن الحياة بدأت من جديد.”

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button