حكاية من زمن الحجر


الخوف لا يمنع من الموت، لكنه يمنع من الحياة – نجيب محفوظ
-1-
كنت هناك، وأنت أيضًا كنت هناك.
كنا جميعًا محاصرين خلف جدراننا، نخشى الهواء، واللمس، والهمس… كنا نخشى حتى أنفسنا.
في البداية، ظننا أنها مجرد استراحة قصيرة، خلناها أيامًا قليلة من الهدوء الإجباري، اعتقدنا أنها فرصة لترتيب الفوضى التي صنعناها بأنفسنا. لكن الأيام امتدت، والأسابيع تحولت إلى شهور، وفجأة، وجدنا أنفسنا عالقين في روتين بلا معنى، وتحولنا إلى ظلال تتجول في المنازل وأشباح تحرس سجنًا غير مرئي.
كان كل شيء يبدو بطيئًا، الزمن نفسه فقد إيقاعه المعتاد وأُصيب بالشلل. وهكذا، استطالت أيامنا دون نهاية، أما ليالينا فكانت مقابر صامتة من الأرق والتساؤل عن معنى الحياة حين يكون العالم كله على حافة الموت.
في الخارج، كان الإعلام يقرع الطبول كجوقة جنائزية:
“ابقوا في منازلكم!”
“احذروا الوباء!”
“التزموا، وإلا!”
أصبحت نشرات الأخبار مصدر الترفيه الوحيد، لكن مع الوقت، تحولت إلى ضربٍ من الهذيان الجماعي. أصبحنا نحفظ العناوين قبل أن تُقال، صرنا نعرف نبرة المذيع قبل أن ينطق، وبتنا نكمل الجمل في رؤوسنا قبل أن تخرج من أفواههم. وكأننا كنا نشاهد نفس الفيلم الرديء، مرارًا وتكرارًا، ولا أحد يملك جهاز التحكم لتغيير القناة.
-2-
وفي لحظةٍ ما، كان لا بد أن تأتي الحقيقة.
كنا أحرارًا، لكننا لم نكن كذلك.
أبوابنا لم تكن موصدة بالسلاسل، لكننا لم نكن قادرين على فتحها.
لم يكن هناك حراس يقفون عند عتبات بيوتنا، لكننا لم نجرؤ على الخروج.
لم يكن الحجر مجرد قرار صحي، كان تجربةً اجتماعية ضخمة واختبارًا لمعرفة مدى تقبلنا لفكرة الانعزال، أي كم من الوقت يمكن أن نصمد دون أن نفقد عقولنا، لمعرفة كيف يمكن ترويضنا، خطوةً بخطوة، حتى نكف عن السؤال، والشك، والمقاومة.
وببطء، بدأنا نستسلم.
كان البعض يملأ فراغه بقراءة الكتب التي لطالما أهملها، والبعض الآخر راح يمارس الرياضة في أروقة شقته الضيقة، والبعض اكتشف في نفسه حبًّا مفاجئًا للخبز المنزلي وصناعة البيتزا.
أما أنا؟
رباه… حدثت المعجزة… وعدت إلى الكتابة!
بعد سبع سنوات من الجفاف، حين كنت أجلس أمام الورق بلا شيء أقوله، حين كان العالم أسرع من قدرتي على استيعابه، وحين كنتُ مهووسًا بالمقاهي، والأسفار، والترفيه، والحوارات الفارغة مع أشباه الأصدقاء، جاء الحجر مثل صفعةٍ قاسية، لكن صادقة.
وجدت نفسي محاصرًا مع أفكاري، دون هرب منها… وهكذا، كسرت الجليد وكتبت.
كتبت عن المرارة، عن الوحدة، عن العزلة التي فرضت نفسها كواقعٍ جديد.
كتبت عن ذلك الشعور الخفي بأننا لسنا فقط محتجزين بسبب فيروس، بل بسبب عالمٍ كاملٍ كان ينتظر فرصة ليضع الأغلال حول أعناقنا.
كتبت عن الصمت الذي كنا نخشاه قبل الحجر وأصبح الآن صديقنا الحميم، مثل كلبٍ وفيٍّ يجلس بجانبنا كل ليلة، يلعق جروحنا مبتسمًا، فاتحًا لنا فمًا مزريًا بلا أسنان.
-3-
ومع الوقت، بدأنا نلاحظ شيئًا غريبًا.
هل يعقل أننا كنا سعداء؟
هل يعقل أن أجمل أوقاتنا كانت تلك التي قضيناها في الحجر؟
كنا في بيوتنا، نأكل ونشرب وننام ونبتكر حيلاً لتزجية الوقت. لم يكن هناك ضجيج المدينة، لم تكن هناك السيارات التي تطلق أبواقها بلا سبب، لم يكن هناك تدافع في الشوارع أو مكاتب مكتظة بأشخاص يكرهون وظائفهم.
كان كل شيء هادئًا… كان هدوءًا خبيثًا، لكنه جميل.
لقد كانت هذه المرة الأولى التي رأينا فيها مدننا كما لم نرها من قبل.
الشوارع الخالية، الهواء الصافي، الطيور التي استعادت حقها في الغناء دون أن يغطي ضجيجنا على أصواتها.
لم يكن أحدٌ في عجلة من أمره. لم يكن هناك مواعيد نهائية، لم يكن هناك سباق محموم نحو لا شيء. كان العالم متوقفًا، وكأننا أخيرًا تمكنا من الإمساك بالزمن نفسه وجعله يبطئ قليلاً.
-4-
لكن كما هو متوقع، لم يدم الأمر طويلاً.
الحجر انتهى، وعادت الحياة، أو ما يشبه الحياة.
لكننا لم نعد كما كنا.
خرجنا إلى الشوارع ووجدنا أن كل شيء أصبح أكثر وحشية وشراسة.
كان هناك شيءٌ ما تغير في النظام، في المعادلة، في القواعد التي تحكم هذا العالم.
لم يكن الأمر مجرد جائحة وانتهت.
لقد كان الأمر أشبه بتجربة، ومثل أي تجربة، لا يعود كل المشاركين فيها كما كانوا من قبل.
لقد خرجنا، لكننا لم نعد نشعر بأننا خرجنا بالفعل.
ولم يكن العالم الجديد كما توقعناه، لم يكن هناك “عودة إلى الحياة الطبيعية” كما وعدونا.
كان هناك شيءٌ مختلف، ناقص، معطوب.
ربما لأننا اكتشفنا أننا كنا أحرارًا فقط حين كنا مسجونين، وحين فُتحت الأبواب، أدركنا أننا لم نعد نعرف كيف نعيش خارجها.
-5-
ها نحن هنا، في عصرٍ جديد، في عالمٍ جديد، لا يشبه شيئًا مما كنا نعرفه.
نحن الآن جزءٌ من آلةٍ أكبر، تُعيد برمجتنا، تُعيد تشكيل وعينا وتعريف حريتنا كما تشاء.
لم يعد أحد يطالب بحقوقه، لأننا اعتدنا على تلقي الأوامر.
لم يعد أحد يعترض، لأننا أصبحنا نعرف أن لا جدوى من الاعتراض.
لم يعد أحد يحلم، لأن الأحلام لا مكان لها في عالم محكوم بالخوف والطاعة.
لكن في كل هذا العبث، كانت هناك مفاجأة لم يتوقعها أحد.
في صباحٍ ما، استيقظتُ على خبرٍ صغير، بالكاد انتبه إليه أحد.
في بلدةٍ نائيةٍ في مكان ما من العالم، كان هناك رجلٌ عجوزٌ خرج إلى الشارع، ووقف وسط الميدان، وأخذ يصرخ بأعلى صوته:
“أنا حر!”
لا أحد يعرف من هو، أو لماذا فعل ذلك، أو ما الذي دفعه للخروج فجأة والصراخ بجملةٍ بهذه البساطة.
لكنه فعلها.
وفي البداية، سخر الناس منه، اعتبروه مجنونًا، لكن بعد قليل، بدأ آخرون ينضمون إليه.
وهكذا، بدأت العدوى تنتشر…
-6-
أما أنا؟
كنت أجلس في زاوية مقهاي المفضل، أراقب كل شيء بصمت، وأكتب هذه القصة في كراس صغير، وأبتسم.
لم أكن أعرف كيف ستنتهي الأمور. ربما سيعودون إلى حياتهم القديمة، ربما ستجد السلطة طريقةً لإخضاعهم من جديد، ربما ستكون هذه مجرد لحظة قصيرة من التمرد قبل أن يعودوا إلى الطاعة والخنوع.
لكني كنت أعرف شيئًا واحدًا.
حتى لو عادوا إلى الصمت، فلن يكون نفس الصمت.
حتى لو انحنوا مجددًا، فلن يكون نفس الانحناء.
لأنهم عرفوا، ولو للحظة، كيف يكون طعم الحرية.
وبمجرد أن تتذوقها… لا شيء في العالم يمكنه أن يجعلك تنساها.