
فرنسا تعرف أفريقيا أكثر من أي قوة عالمية أخرى، وبالتالي فإن الانسحاب العسكري ليس قراراً عسكرياً فحسب، بل هو جزء من استراتيجية جديدة…

دخل الفرنسيون القارة الأفريقية قبل قرون بحثاً عن أسواق جديدة، فكانت سفنهم تغادرها محملة بالذهب والعبيد والصمغ العربي. نشروا لغتهم وثقافتهم ودينهم، وهيمنوا لعقود على النخبة الأفريقية.
ارتبطت أفريقيا وفرنسا بتاريخ طويل من الاستعمار وما بعده، حتى ظن الطرفان أن مصيرهما مشترك، لكن هذه العلاقة مرت –ولا تزال تمر – بتقلبات حادة، قد يكون أبرزها اليوم الانسحاب الفرنسي التدريجي من القارة، بما يعكس رغبة متزايدة لدى الدول الأفريقية في استعادة سيادتها الكاملة.
فقد الفرنسيون نفوذهم التقليدي في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، وها هي القوات الفرنسية تنسحب من كوت ديفوار والسنغال، وهما من أهم معاقل النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا. في أبيدجان، رفع الجنود الإيفواريون في 20 شباط / فبراير الماضي علم بلادهم فوق قاعدة عسكرية ظلت تحت السيطرة الفرنسية لعقود. الرئيس الحسن واتارا وصف الانسحاب بأنه خطوة نحو تعزيز الاستقلال، مؤكداً أن الجيش الإيفواري بات قادراً على حماية أراضيه من دون الحاجة إلى وجود عسكري أجنبي، لكن هذه اللحظة الرمزية لم تخلُ من التناقضات؛ فالكثير من الإيفواريين يتذكرون أن واتارا نفسه ما كان ليصبح رئيساً لولا التدخل العسكري الفرنسي قبل 15 عاماً، عندما أطاح الفرنسيون خصمه لوران غباغبو.
وبينما رأى البعض في الانسحاب انتصاراً وطنياً، تساءل آخرون عن قدرة القوات المحلية على تحمل مسؤولية الأمن، بخاصة في ظل تهديدات أمنية إقليمية متزايدة.في السنغال، شهدت العاصمة دكار مشهداً مشابهاً. ففي 7 آذار /مارس الجاري، بدأت فرنسا بتسليم قواعدها العسكرية الى السلطات السنغالية تنفيذاً لقرار الرئيس باسيرو ديوماي فاي، الذي أكد أن السنغال يجب أن تعتمد على نفسها بالكامل.
في الشارع السنغالي، انقسمت الآراء؛ البعض اعتبر أن الخطوة تأخرت كثيراً، بينما أبدى آخرون قلقهم لتداعياتها على الاستقرار، بخاصة مع تزايد خطر “فاغنر” على الحدود مع مالي، وانتشار التنظيمات الإرهابية في المنطقة.
المشهد في السنغال يعكس موجة من الاعتزاز الوطني، لكن الخطاب الوطني الصاعد يخفي خوفاً من المستقبل، خصوصاً في ظل استعداد السنغال لاستغلال ثرواتها الضخمة من النفط والغاز. ويبقى السؤال المطروح هنا هو هل الوقت مناسب لتخلي السنغال عن حليفها العسكري التاريخي؟
رغم كل هذه التحديات، فإن خروج القوات الفرنسية من أفريقيا يعكس تلبية لرغبة شعبية واضحة. ذلك أن تزايد العداء الشعبي حيال فرنسا في القارة بات ملموساً، إذ تُتهم باريس بحماية الأنظمة الفاشلة ونهب الثروات. والشعوب الأفريقية باتت مقتنعة بأن أي سيناريو بعد رحيل فرنسا لن يكون أسوأ من الوضع الحالي.لكن السؤال الأكبر يظل: ماذا ستفعل فرنسا؟
فرنسا تعرف أفريقيا أكثر من أي قوة عالمية أخرى، وبالتالي فإن الانسحاب العسكري ليس قراراً عسكرياً فحسب، بل هو جزء من استراتيجية جديدة. قد يُفسر ذلك بأنه تراجع واضح للنفوذ الفرنسي، لكن تحليلاً آخر يرى أنه إعادة تموضع ضمن استراتيجية جديدة.
وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو، أعلن أن فرنسا ستعتمد على “نموذج الدعم عند الطلب” بدلاً من الوجود العسكري الدائم. ووفقاً لهذا النموذج، ستستبدل باريس القواعد العسكرية المكلفة بوحدات أصغر وأكثر مرونة لدعم حلفائها والتدخل عند الحاجة.هذا التغيير يذكر بما حدث في عقد الخمسينات من القرن الماضي، عندما خرجت فرنسا منهكة من الحرب العالمية الثانية، ومنحت مستعمراتها الاستقلال مع الإبقاء على النفوذ عبر اتفاقات عسكرية واقتصادية.
المشكلة اليوم ليست في الفكرة، بل في من سينفذها؟ ففي الخمسينات، كانت فرنسا تُقاد من سياسيين محترفين مثل شارل ديغول، أما اليوم فهي تعاني أزمة في النخبة السياسية القادرة على التعامل مع عالم يتغير بسرعة.في المقابل، تفتح هذه التحولات الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ. روسيا عززت وجودها في أفريقيا عبر اتفاقات تعاون عسكري، بينما توسع الصين استثماراتها في البنية التحتية. وتبرز أيضاً قوى جديدة مثل تركيا والهند والبرازيل، ما يعيد طرح سؤال محوري آخر هو : هل نحن أمام قارة تتخذ قراراتها بيدها، أم نشهد ببساطة استبدال نفوذ أجنبي بآخر؟التحدي الحقيقي أمام الدول الأفريقية ليس في طرد القوات الأجنبية وحسب، بل في بناء جيوش قوية وأنظمة دفاعية مستقلة، قادرة على حماية السيادة الوطنية من دون تدخل خارجي. كما أن إنهاء الخلافات الداخلية وبناء تكتلات إقليمية قادرة على التصدي للأطماع الخارجية سيحدد مصير القارة في السنوات المقبلة؛ فإما أن تنهض أفريقيا بوحدتها وقوتها الذاتية، وإما أن تتحول إلى ساحة جديدة لصراع القوى العالمية.
المصدر: النهار