لماذا نحتاج إلى فلسفة نقدية للذكاء الاصطناعي؟

“الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو مشروع اجتماعي واقتصادي يعيد تشكيل بنية السلطة والمعرفة في عصرنا.”
— شوشانا زوبوف

أستاذ باحث وخبير في الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للإعلام والاتصال
لم يشهد العالم المعاصر ظاهرة تكنولوجية أثارت الجدل والاحتفاء بقدر ما فعله الذكاء الاصطناعي. تقف البشرية اليوم على حافة تحول جوهري يعيد تشكيل علاقتها مع التقنية، فارضًا تحديات جديدة، وطارحًا أسئلة فلسفية وجودية حول حدود الذكاء البشري ومكانته في هذا العصر. لكن وسط هذا الاحتفاء، يبرز قلق عميق لدى المفكرين والفلاسفة: هل نحن أمام تقدم حتمي، أم أننا نقف على أبواب انزلاق خطير نحو عالم تتحكم فيه الخوارزميات لا القيم الإنسانية؟
يؤكد بيير بورديو أن كل خطاب يحمل معه أيديولوجيا خفية، ومن هذا المنطلق، لا يمكن فهم انتشار الذكاء الاصطناعي دون النظر إلى القوى الاقتصادية والاجتماعية التي تقف خلفه. فالترويج لهذه التقنية ليس مجرد حديث عن إمكانياتها الضخمة، بل هو صناعة متعمدة تهدف إلى إرساء نمط جديد من الهيمنة، حيث تتسيد الشركات التكنولوجية الكبرى المشهد، وتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة للسيطرة على الأسواق والأفراد.
إن الدعاية التي تحيط بالذكاء الاصطناعي تتجاوز كونه ابتكارًا علميًا، لتصبح نوعًا من الإيديولوجيا التقنية التي تصور التكنولوجيا كقدر محتوم. وهنا يتجلى ما سماه إدغار موران بـ”التبسيط المفرط”، حيث يتم تقديم التقنية كحل لكل مشكلات الإنسان دون الاعتراف بتعقيدات الواقع الاجتماعي والثقافي.
أمام هذه النزعة المتسارعة والجنونية إلى إحلال التكنولوجيا في كل شبر من الحياة اليومية، وفي كل حركات وسكنات البشر، يحق لنا أن نتساءل: هل نحن أمام نهاية الإنسان؟
في هذا السياق، يشير يوفال نوح هراري إلى أن التكنولوجيا لم تعد مجرد وسيلة لتحسين حياة البشر، بل أصبحت عاملاً يعيد تشكيل طبيعتهم بالكامل، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول معنى أن تكون إنسانًا في عصر الذكاء الاصطناعي. فهل ما زالت للبشرية مكانة مركزية، أم أننا دخلنا عهد “ما بعد الإنسان” حيث تحل الآلات محل العقل البشري؟
نرى أن الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتقديم حلول تقنية، بل يعيد تعريف القيم والأنظمة الاجتماعية. فمع انتشار الأتمتة وتحليل البيانات الضخمة، تصبح العديد من القرارات، التي كانت سابقًا تتطلب أحكامًا بشرية، محكومة بخوارزميات رياضية. وهنا يتقاطع هذا النقاش مع أفكار ناعوم تشومسكي حول السلطة واللغة، حيث يرى أن الذكاء الاصطناعي، إذا تُرك بلا ضوابط، قد يؤدي إلى نموذج جديد من الهيمنة الرقمية التي تقيد الحريات بدل أن تعززها.
وإذا كان بورديو قد أشار إلى أن الإعلام يصنع الرأي العام، فإن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيله بشكل أعمق وأخطر. فمن خلال تحليل البيانات، يمكن للخوارزميات التنبؤ بتصرفات الأفراد، وتوجيه قراراتهم، والتأثير على اختياراتهم بطرق غير مرئية. وهنا، نحن لا نتحدث فقط عن إعلانات موجهة أو توصيات على منصات التواصل الاجتماعي، بل عن إعادة برمجة الوعي البشري ضمن منظومة اقتصادية-رقمية تحكمها شركات كبرى مثل غوغل، أمازون، وميتا.
وفي هذا الاتجاه، من المهم الرجوع إلى أفكار هربرت ماركوزه الذي تحدث عن “الإنسان ذي البعد الواحد”، حيث تتحول البشرية إلى قطيع من المستهلكين السلبيين داخل نظام مغلق يحدد لهم ما يرونه، يقرؤونه، وحتى ما يفكرون فيه. ومن هذا المنظور، فإن الذكاء الاصطناعي، بدلًا من أن يكون وسيلة للتحرر والانعتاق، قد يصبح أداة لإعادة إنتاج نفس أنماط الهيمنة، حيث تضعف القدرة النقدية للإنسان أمام سطوة التقنية.
إذًا، بين التفاؤل والتشاؤم، أمام هذا الوحش التقني المتمدد والمتسرطن في الزمان والمكان، أي مستقبل ينتظرنا؟
لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقًا هائلة في مجالات الطب، البحث العلمي، وتحسين جودة الحياة. لكن السؤال الأساسي الذي يواجه الفلاسفة والمفكرين اليوم ليس فقط عن إمكانياته، بل عن تأثيره على القيم الإنسانية والمجتمعات. فهل سيظل الإنسان محور الوجود، أم أنه سينزلق إلى مجرد عنصر تكميلي وبيدق متحرك في معادلة رقمية تحكمها الخوارزميات؟
يقول إدغار موران إن الذكاء الحقيقي لا يكمن فقط في القدرة على تحليل البيانات، بل في القدرة على التفكير النقدي واتخاذ القرارات الأخلاقية. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يفتقد لهذه الأبعاد، فهل يمكن اعتباره ذكاءً حقيقيًا؟ أم أنه مجرد محاكاة متطورة لا أكثر؟
ختامًا، نحن بحاجة إلى فلسفة نقدية جديدة للذكاء الاصطناعي، فلسفة تتجاوز الخطاب التسويقي الذي يحتفي به دون نقد، وتسعى إلى التعامل معه بوعي وتوازن. وهنا، يجب أن يكون السؤال المركزي ليس فقط “ما الذي يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي؟”، بل “ما الذي ينبغي أن نسمح له بفعله؟”.
لقد أثبتت التجربة أن كل تقنية تحمل في طياتها مخاطر وفرصًا، وأن مستقبل الذكاء الاصطناعي لن يتحدد فقط بقدراته التقنية، بل بالطريقة التي يختار بها البشر استخدامه. فهل سيكون الذكاء الاصطناعي أداة للتحرر والتقدم، أم أنه سيصبح قيدًا جديدًا يُفرض على الإنسانية؟
لعل هذا السؤال يظل مفتوحًا، لكنه يستحق أن يُطرح بجدية قبل فوات الأوان.ال