سائر إلى النور

الطريقُ إلى الله بعددِ أنفاسِ الخلائق – ابن عربي
خرج الفتى من بيت أبيه كما يخرج بيت شعري ناشز من قصيدة عصماء مكتملة. بالكاد أتمّ عامه الثامن عشر، وها هو ذا يجرّ قدميه كما لو كانتا مكبلتين بحبال غير مرئية.

لم يكن الرحيل قرارًا، بل كان قَدَرًا يُسكَب في أذنيه منذ الطفولة على هيئة كلمات أبوية صارمة:”كن رجلًا، واحصل على أرفع شهادة جامعية، الدكتوراه.
“أوامر أم نبوءة؟
لم يكن يعلم. لكنه كان يدرك أن الظلال الطويلة التي يخلّفها الأبناء خلفهم عند المغادرة ليست سوى امتدادٍ لتلك التي صنعها آباؤهم. وهكذا، رسم لنفسه طريقًا لا رجوع فيه، خطًّا دقيقًا على ورقة بيضاء، مرسومًا بعناية كأنما تسطره يدٌ عليا لا تُرى.
في باريس، في تلك الفضاءات التي كانت تلمع بأضوائها كأنها جسد عروس في ليلة زفافها، لم يكن يرى إلا غرفةً ضيقة، مكتبةً باردة، و طاولة تئنّ تحت ثقل الكتب. زملاؤه كانوا يقضون لياليهم في احتساء النبيذ، و يترنحون تحت أضواء المقاهي، كانوا يضحكون بلا سبب، بينما كان هو يجلس هناك، بين جدران تطفو عليها ظلال حروفٍ منحوتة على الورق. عشر ساعات، اثنتا عشرة، لا يهم، و أحيانًا ينسى أن للزمن إيقاعًا آخر غير تقليب الصفحات.
وفي الليل، في الحي الجامعي الدولي، عندما كان يمرّ أمام غرف زملائه، ويسمع ضحكاتهم تتفجّر كالبركان، كان يهمس لنفسه:”هل هذه حياة؟”لكنه كان يعرف الإجابة مسبقًا.
ليس في الضحك المفرط إجابة، وليس في المتعة المنفلتة من القيود خلاص. الطريق إلى النور ليس مشمسًا، بل هو مسلك يشبه أنفاق المترو، وربما أنفاق غزة، لأن هذا هو التشبيه الأبلغ… أنفاق طويلة، خانقة، ولا أحد يعلم أين تنتهي.
كان الفتى يقرأ عن الأنبياء والحكماء كما يقرأ رجلٌ سجينٌ عن الحرية. ها هو سيدنا إبراهيم يعتزل قومه وما يعبدون. ها هو موسى كليم الله يقضي أربعين يومًا في العزلة ليعود بنور جديد يشع من عينيه. ها هو محمد، الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، ويخرج منه حاملًا وحيًا يغيّر مجرى التاريخ.
أيمكن أن يكون العلم الذي يطلبه هو ذاك الذي يكمن في العزلة؟ أيمكن للنور أن ينمو في الظلام؟وذات مساء، في أعماق المكتبة، حيث كانت رائحة الورق القديم تشبه رائحة الزمن نفسه، شعر فجأة أن يده تمسّ كتابًا غير مرئي، كأنما انفتح أمامه بابٌ إلى غرفة لم يكن يعلم بوجودها داخله. نظر حوله. الكتب لم تتحرّك. العالم لم يتغير. لكنه، بطريقةٍ ما، لم يكن هو نفسه.
وجاء اليوم الموعود. القاعة كانت مكتظة. أبوه جالس على مبعدة أمتار منه، عيناه مزيجٌ من الفخر والدموع المحبوسة… فالرجال لا يبكون.. كانت مناقشة الأطروحة لحظات من الإلهام والضياء، وكانت الكلمات تنساب من الفتى كما لو أنه لم يعش سنواته الأخيرة إلا ليفصح بها في هذا اليوم. وكان الأساتذة يومئون برؤوسهم إلى الفتى بقدر هائل من الإعجاب، بينما أصدقاء الدراسة كانوا ينظرون إليه كمن يرى شخصًا يعرفه لكنه لم يكن يتوقع رؤيته في هذه الصورة.
وعندما انتهى كل شيء، كانت البداية، إذ وقف والده أمامه، ووضع يده على رأسه قائلاً:
“الله يرضى عليك يا ولدي… شرفتنا وشرفت العائلة.”
في تلك اللحظة، لم يعد الزمن خطًّا مستقيمًا. صار دائرة، موجة تهدر وتعود، تغمر كل الساعات الطويلة التي قضاها وحده، تغسلها، تنقيها، تتركها كذكرى تلمع تحت ضوء المصابيح المتلألئة.
ومرّت الأعوام. ولم يكتفِ بالحصول على الدكتوراه، بل نال المزيد من الألقاب. اشتغل ودرّس، وربح المال، والأهم من ذلك، حصد قدرًا كبيرًا من الهيبة والاحترام. كان اسمه يُذكر في الأوساط الأكاديمية كما يُذكر اسم بحرٍ لا يزال العلماء يجهلون أعماقه. لكنه، ذات ليلة، وهو جالس في شرفته، شعر بشيء يشبه فراغًا أبيض في لوحة مليئة بالألوان.وهمس لنفسه:”كل نجاح وصلت إليه لم يكن نتاجًا لمجهودي الشخصي فحسب…”كان الأمر واضحًا كالشمس، منيرًا كالقمر ليلة البدر.
أسطورة النجاح التي يلهث خلفها الجميع لم تكن يومًا إنجازًا فرديًا. كانت، بالأحرى، مفهومًا بثلاثة أبعاد:
1. رضا الله، الذي ألبس روحه صبرًا وقلبه نورًا
.2. بركة الوالدين، ذلك الدعاء الصادق القوي الذي كان يتسلل إليه دومًا مثل ندى الفجر الرطب، فيغسل أعماقه ويطهّر قلبه
.3. مجهوده الشخصي، وإصراره على التفوق.لكن إذا كان هذا صحيحًا، فهل يعني ذلك أن الفشل ليس خطأ فرديًا أيضًا؟ أيمكن أن يكون هناك أناس لم يجدوا هذه الخيوط الثلاثة، فسقطوا في الظلام؟كان هذا السؤال الحارق مثل شوكة انغرست في عقله.
وتساءل والحيرة تعصف به:”إذا كان العلم نورًا، فلماذا ظلّ بعض العلماء في الظلام؟”وبعد أن فرغ من هذا السؤال و ذاك، قرر أن يملأ أوقات فراغه بقراءات جديدة.
اكتشف الغزالي، فوجد رجلًا يختلف عنه، إذ يبحث عن الحقيقة خارج الكتب بعد أن قرأ كل مخطوطات ومصنفات عصره. قرأ المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي، فاستلذ الوصول إلى الحضرة الإلهية بالشعر و الإنصات إلى صوت القلب وتذوق الجمال في أبسط الأشياء.
وأخيرًا، قرأ ابن عربي، فاكتشف أن هناك عوالم عميقة لا تُرى ولا تُدرك إلا بعين القلب.واستقرت في لا وعيه بعد هذه الكشوفات حقيقة ساطعة:”العلم وحده لا يكفي…”وبعد سبعة أيام، جلس يتأمل النجوم التي بدت له كعيون كبيرة تراقبه من الأعلى. وربما لم يكن السؤال الذي طرحه الفتى على نفسه: كيف أعرف؟ بل: كيف أحس؟لماذا هذا التحول؟لأن المعرفة، كما يقول الحكماء، تملأ العقل، لكنها لا تنير القلب.
وهناك، في أعماق عقله، وُلد صوتٌ جديد كان يختلف عن أي شيء عرفه في الماضي.ومن جديد خاطبه صوته الداخلي:”المعرفة موجودة بالأطنان في الكتب والقواميس، وبخاصة على الإنترنت. لا تجعلها من أولوياتك… سر في طريق الحكمة. هذا هو الأهم…”ومر شهر، وقرر الفتى أن يسافر، أن يسيح في دنيا الله. وخاطب نفسه مشجعًا:”لا بأس أن تترك الكتب قليلًا. امشِ بين الناس، وتعلم من الحياة، من الرحلة، تعلم أكثر… تمامًا كما يفعل السالكون، العارفون، خدام الله، المتحولون من الطريق إلى الطريقة.”وبعد ثلاثة أيام، وقف الفتى في سفح جبل، على مبعدة عشرات الأميال من مدينة الأنوار.
كان الأفق مظلمًا حالك السواد، لكن النجوم كانت شديدة اللمعان.وتساءل الفتى في أعماق قلبه:”هل النور يأتي بالعلم… أم بالصفاء؟”وصراحةً، لم يكن هناك رد واضح عن هذا السؤال العميق، لكن لحسن الحظ، أن نورًا في داخله توهّج وأشرق.