حكاية القطيع..

” الحرية هي فرصتك لتكون أفضل — ألبير كامويقول الراوي : “

في البيت، كنتُ سلطانًا متوَّجًا، أو هكذا خُيِّل إليَّ. كنتُ أكتب متى أشاء، أطبخ ما أشتهي، أسمع الموسيقى التي تليق بمزاجي، وأقرر كيف أمضي يومي.
لم يكن مجرد بيت، بل كان عالمي الخاص، مملكتي التي لا سلطان لأحد عليها إلا أنا.ثم جاء الحجر، فظننته سجنًا في البداية، لكنني أدركت مع الوقت أنه كان عكس ذلك تمامًا.
في عزلة الجدران الأربعة، عرفتُ معنى الحرية الحقيقي. لا مدير يلاحقك، لا حكومة تُملِي عليك أوامرها، لا قطيع عليك أن تلتحق به. كنتُ وحدي، حرًا، بوهيميًّا، طليقًا، وكنتُ أعيش وفق إيقاعي الخاص.
وهذا هو الأهم!لكن، كما هو الحال مع كل نعمة، لم يكن مسموحًا لي أن أتمتع بها طويلًا.فما الذي وجدناه بعد الحجر؟عندما انتهى الحجر، وعادت الحياة إلى طبيعتها – أو هكذا زعموا – خرجنا إلى الشوارع.
لكننا لم نجد ما تركناه قبل أن نُسجَن في البيوت. لم نجد الضجيج المعتاد، ولا الحوارات العفوية في المقاهي، ولم نجد حتى ضحكات العابرين التي كانت تملأ المدينة بشيء من الدفء.بدلًا من ذلك، وجدنا أناسًا يسيرون بصمت، وجوههم مغطاة، أعينهم زائغة، أجسادهم متخشبة، كأنهم آلات تؤدي مهامها اليومية بلا روح.شعرتُ للحظة أنني أخطأت العالم.
هل هذا كوكب آخر؟ هل خرجتُ من عزلتي لأجدني في عالم موازٍ؟ أم أنني لم أكن أرى الحقيقة سابقًا، وهذا هو الوجه الحقيقي للعالم؟كل شيء صار آليًا. البشر يمشون بنفس الإيقاع، يتحدثون بنبرة واحدة، حتى الضحك – إن سُمع – بدا وكأنه خرج مبرمجًا، غير حقيقي، كأن أحدهم ضغط على زر تشغيل الضحكات في ماكينة بشرية عملاقة.
هل نجح النظام العالمي في تدجيننا؟لم يكن الحجر مجرد إجراء صحي.
كان تدريبًا جماعيًا على الطاعة، وذلك وفق ثلاث خطوات:
1. التطعيم الإجباري: لم يكن الأمر مجرد حقنة تُؤخذ في الذراع، بل كان اختبارًا أوليًا لمعرفة مدى استعدادك للامتثال. هل ستقبل دون نقاش؟ هل ستقف في الطوابير لتأخذ الجرعة دون أن تسأل لماذا؟
2. الكمامة: ليست مجرد قطعة قماش، بل هي رمز حي للطاعة. تغطي بها وجهك، تخفي بها تعبيراتك، تكتم بها صوتك. لم تعد ترى وجه الآخر، ولم يعد الآخر يرى وجهك.
كان كل شيء يُعاد برمجته بصمت
.3. العزلة: كانت الخطوة الأكثر فاعلية. أن تتعود على الوحدة، أن تصبح غرفتك هي عالمك، أن تتحول الشاشة إلى نافذتك الوحيدة، أن تتحدث مع الناس عبر تطبيقات إلكترونية بدلًا من الجلوس معهم. ببطء، بدأت العزلة تتحول إلى الوضع الطبيعي.
بدأنا ننسى كيف نتفاعل ونتحاور ونشعر بالألفة مع الغرباء.ثم جاء التطبيع مع كل ذلك.جاء العالم الجديد حيث القبول أهم من التفكير. فهل أكثر الطرق المباشرة لجعل الناس عبيدًا هي إخافتهم؟صراحةً، لم يكن الحجر إلا فزَّاعة، وسيلةً لإقناعك أنك بحاجة إلى الحماية، إلى سلطة تُقرر لك كيف تعيش، إلى نظام يتحكم في تفاصيل يومك كي “تحافظ على سلامتك”.
لكن، هل كان ألبير كامو يعلم أيضًا أن الحرية ليست مجرد وهم حين قال:”الحرية هي فرصتك لتكون أفضل”؟ماذا لو لم يرغبوا في أن تكون أفضل؟ماذا لو كانت الحرية تهديدًا لهم؟لذلك كان من الضروري أن يُعاد تشكيلك. فليس صحيحًا أن الناس يتغيرون، بل الأصح أنهم يُعاد تشكيلهم، كما قال غابرييل غارسيا ماركيز.وهكذا بدأت مرحلة إعادة التشكيل، حيث لم يعد مطلوبًا منك التفكير، بل القبول.
لم يعد مسموحًا لك بأن تسأل، بل فقط أن تستمع وتنفذ.تم تصميم نظام عالمي جديد، حيث الجميع يستهلك، ولا أحد يُبدع. حيث الجميع يسير وفق المخطط، ولا أحد يخرج عنه.
حيث الأفكار الخطرة – أي الأفكار الحرة – تموت قبل أن تولد، تحت وطأة المراقبة والتدجين والسيطرة الإعلامية.وبعد نهاية الحجر، خرجتُ إلى المقهى لأول مرة منذ شهور.
جلستُ في زاوية أراقب العالم الجديد الذي خرجتُ إليه.في كل طاولة، هناك شخص يُحدق في هاتفه. لا أحاديث، لا جدالات، لا ضحك. في زاوية المقهى، شاب يرتدي سماعات غريبة، مغمور تمامًا في عالمه الافتراضي. بجانبه، امرأة في منتصف العمر، تمسك بفنجانها لكنها لا تشرب، كأنها نسيت كيف تستمتع بلحظة صمت مع كوب قهوة.
في المقهى القديم، كنتُ أسمع عشرات الأحاديث تتداخل، عن الحب، عن السياسة، عن الحياة. الآن، لم يعد هناك سوى الصمت، وصوت آلات القهوة تعمل بلا توقف، كأنها الشيء الوحيد الذي لم يفقد حيويته.في الشارع، المارة يسيرون بنفس الخطوات، بنفس الإيقاع.
لا أحد ينظر إلى الآخر. لا أحد يبتسم.هذه ليست مدينة. هذا مصنع ضخم للبشر، حيث الإنتاجية أهم من الروح، حيث العمل أهم من الحياة، حيث الطاعة أهم من الحرية.”
في الديكتاتوريات، قتل الناس أسهل من تغيير أفكارهم”، كما يقول علاء الأسواني.
لكن، ماذا لو استطاعوا تغيير الأفكار أولًا؟وقتذاك، لن يكون هناك داعٍ للقتل، لأن الجميع سيكون جزءًا من القطيع، سيكون مطيعًا، خانعًا، مستسلمًا.أهلًا بك في القطيع الجديد، حيث الجميع خاضع بلا وعي.. لم يعد أحد يتساءل، لم يعد أحد يغضب، لم يعد أحد يرفض.
كل شيء صار محسوبًا، مبرمجًا، مُقرّرًا مسبقًا. فهل هذه الحياة الجديدة تستحق أن تُعاش؟لم نعد نعيش. نحن فقط نؤدي دورًا في مسرحية كتبها لنا الآخرون، حيث الشركات الكبرى ولوبيات الأدوية والغذاء هم الكُتّاب، ونحن مجرد ممثلين صامتين.
في العالم الجديد، لم يعد مسموحًا لك أن تكون مختلفًا.
أن تكون لك شخصية مميزة، رأي مستقل، طريقة تفكير خاصة. كل شيء يجب أن يكون موحدًا. الجميع يتحدث بنفس اللغة، يرتدي نفس الملابس، يستهلك نفس المنتجات، يؤمن بنفس “الحقائق” التي تُقدَّم له يوميًا عبر الإعلام.
وبالتالي، هل هناك مخرج؟في المقهى، عاد إليَّ النادل بعد دقائق، سألني إن كنتُ بحاجة إلى شيء آخر.”نعم”، قلتُ له، “أريد حياة أخرى.”ضحك بتوتر ومضى، فلا أحد يطلب مثل هذه الأشياء بعد الآن.
يُخيَّل إليك أن هذه نهاية القصة؟ لا، هذه فقط البداية.
فهل القادم هو الجحيم؟ هل ما زالت هناك حياة أخرى لنبحث عنها؟ أم أن القصة قد انتهت فعلًا، والعالم صار كما بُرمِج له؟ “.