
“التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكنك استخدامه لتغيير العالم.” — نيلسون مانديلا

كاتب وأستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط
أصبح للنجاح تعريف جديد في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، وصار صوت المال أعلى من صوت العلم، وللأسف، أضحى الأثرياء الجدد هم القدوة، حتى وإن لم يكن لهم فضل يُذكر سوى قدرتهم على تسويق الوهم.
نحن نعيش عصرًا صار فيه مقطع فيديو سخيف على “تيك توك” أكثر تأثيرًا من كتاب في الفلسفة، وأصبح “يوتيوبر” بلا معرفة ولا خبرة مصدر إلهام لملايين الشباب، بينما يُنظر إلى العلماء والأكاديميين ككائنات منقرضة لا تنتمي لهذا العصر.
ليس غريبًا إذًا أن نرى موجة من صناع المحتوى يروّجون لفكرة أن المدرسة والجامعة لا فائدة منهما، وأن النجاح يُقاس بعدد الأصفار في الحساب البنكي، وليس بعدد الكتب التي قرأتها أو الأفكار التي طوّرت بها عقلك.
هل صار تبخيس العلم جريمة هذا العصر؟لم يعد الهجوم على المؤسسات التعليمية أمرًا عابرًا، بل صار تيارًا جارفًا يقوده المؤثرون الجدد الذين يملكون ملايين المتابعين، مروّجين للجهل كأنه فضيلة، وواصفين العلم بأنه مجرد عبء ثقيل لا حاجة لنا به.
المنطق الذي يتم الاستناد إليه هنا بسيط ومغرٍ: لماذا تضيّع سنوات من عمرك في الجامعة بينما يمكنك أن تصبح مليونيرًا عبر “البيزنس”، أو العملات الرقمية، أو التسويق الإلكتروني؟هذا الخطاب لم يأتِ من فراغ، بل هو جزء من ثقافة استهلاكية ترى الإنسان كآلة إنتاج، لا ككائن مفكر يسعى للفهم.
وهذه الثقافة الاستهلاكية تحتاج إلى جمهور سهل الانقياد، ساذج التفكير، يؤمن أن المال وحده هو مقياس النجاح، ولا يطرح أسئلة عميقة وذكية عن دوره في الحياة أو عن المعنى الحقيقي للوجود.هل قامت الحضارات بالمال وحده؟تاريخيًا، لم تنجح أي حضارة بفضل المال وحده.
الفراعنة لم يبنوا الأهرامات لأنهم كانوا أثرياء، بل لأنهم امتلكوا علوم الهندسة والرياضيات والفلك.
الحضارة الإسلامية لم تزدهر لأنها قامت على قوة المال، بل لأنها احتضنت العلماء في الطب والفلسفة والكيمياء. النهضة الأوروبية لم تقم على التجار وحدهم، بل قامت على العلماء والمفكرين والفنانين الذين حطّموا جدران الجهل وأعادوا للإنسان مكانته ككائن مفكر.
أما اليوم، فنحن أمام مشروع مضاد للنهضة، مشروع يقوم على التجهيل المنظَّم، ويجعل من الأثرياء الجدد أبطالًا خارقين، ويختزل النجاح في معادلة واحدة: المال = السعادة، ومن لا يملك المال فهو فاشل.و إذا كان النجاح مجرد جمع للمال، فهل هذا يعني أن أينشتاين كان فاشلًا لأنه لم يكن مليونيرًا؟ هل كان الحسن بن الهيثم مغفلًا لأنه قضى حياته يدرس الضوء بدلًا من أن يستثمر في العقارات؟ هل كان نجيب محفوظ خاسرًا لأنه لم يصبح ثريًا من كتاباته؟نعتقد أن النجاح الحقيقي أعمق من مجرد رصيد في البنك. إنه توازن بين الصحة، والعاطفة، والروح، والمعرفة، والمادة.
النجاح هو أن تحقق ذاتك، أن تجد شغفك، أن تترك أثرًا، أن تشعر بالرضا عن حياتك.
قد تكون طبيبًا بأجر متوسط لكنك تنقذ الأرواح، وقد تكون أستاذًا تعيش حياة بسيطة لكنك تزرع المعرفة في عقول طلابك، وقد تكون فنانًا أو مهندسًا أو حتى خبازًا يحب عمله ويؤديه بإتقان.وهذا هو الأهم…لكن للأسف، هذه القيم لا تصلح لعصر “الترند”.
إنها قيم بطيئة التأثير، تحتاج إلى وقت ونضج حتى تظهر ثمارها. أما ثقافة النجاح السريع، فهي لا تصبر على هذا.
إنها تريدك أن تؤمن أن كل شيء قابل للبيع، حتى نفسك.لماذا اذا يُراد لنا أن نكون جهلة؟ولعل السؤال الأهم: لماذا يُراد لنا أن نبتعد عن المدرسة والجامعة؟ لماذا أصبح العلم عبئًا في نظر الكثيرين؟الإجابة واضحة: لأن الجاهل تسهل السيطرة عليه.
الجاهل يستهلك بلا تفكير، يصدّق الإعلانات بلا تحليل، ينفق أمواله على توافه لا يحتاجها، يصوّت دون أن يقرأ البرامج الانتخابية، يشتري دون أن يسأل عن المصدر.
الجاهل تابع، ولا يمكن أن يكون قائدًا بالمعنى الحقيقي للكلمة.
أما المتعلم، فيسأل، يشكّك، يناقش، ويرفض أن يكون مجرد رقم في ماكينة الاستهلاك. المتعلم يعرف أن النجاح ليس مجرد أموال، وأن القيم لا تُباع ولا تُشترى، وأن المجتمعات تنهض بالعلم والعمل، لا بالترندات الفارغة والتفاخر بالأشياء البراقة.ختامًا، نحن اليوم أمام معركة حقيقية بين ثقافة الوعي وثقافة التسطيح، بين جيل يريد أن يتعلم ويفهم، وجيل آخر يُقاد وراء سراب الثراء السريع.
وبما أن المدرسة والجامعة ليستا مجرد شهادات ورقية، فهما أولًا وقبل كل شيء فضاءات لصناعة العقول. صحيح أن نظام التعليم قد لا يكون مثاليًا، وقد يكون بحاجة إلى تطوير، لكن الحل ليس في الهروب منه إلى وهم المال السهل، بل في تحسينه وجعله أكثر فاعلية.
من منا لا يريد أن يكون ثريًا؟ المال قوة… لكنه ليس غاية.
المال وسيلة، وليس معيارًا للنجاح، لأن النجاح الحقيقي هو أن تعيش حياة ذات معنى، أن تترك أثرًا، وأن تكون أكثر من مجرد رقم في قائمة الأثرياء الجدد.