أخبارالرئيسيةثقافة و فن

باولو كويلو يقبّل يد نجيب محفوظ

الحكاية ليست ملكًا لمن يرويها، بل لمن يسمعها ويجعلها تعيش إلى الأبد — خورخي لويس بورخيس

بقلم: د. مهدي عامري
كاتب وأستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط

هل خطر ببالك أن أمريكا اللاتينية قد قبلت ذات يوم اليد العربية التي تكتب القصص وتتحف القراء في العالم أجمع بأجمل الحكايات ؟ بينما كنت جالسًا في الطبيعة في شهر رمضان، أنتظر أذان المغرب، تبادرت إلى ذهني تلك القصة الطريفة التي قرأتها ذات يوم من عام 2005 عن لقاء جمع بين روائي برازيلي وروائي مصري، بين أمريكا اللاتينية والعالم العربي، بين باولو كويلو و نجيب محفوظ.

مشهد واحد فقط: يد تُقبَّل، وابتسامة تُرسم، وكلمات تُقال، لكنه مشهد ينطوي على شبكة كاملة من المعاني.

هنا، عند تلك اللحظة، تبرز فلسفة الأدب ليس فقط كفعل سردي، بل كحركة ثقافية، كعلاقة قوى، كاعتراف مُركّب، وكحوار رمزي عابر للزمن.

حينما يعترف أدب أمريكا اللاتينية بالأدب العربي، فماذا يعني ذلك؟ما الذي يعنيه أن يُقبِّل كاتبٌ من أمريكا اللاتينية يد كاتب عربي؟ في الظاهر، يبدو هذا مشهدًا طبيعيًا من مشاهد التقدير والتبجيل، لكنه في العمق لحظة نادرة من لحظات الاعتراف بين ثقافتين ظلّتا طويلًا على هامش المركزية الغربية.

أمريكا اللاتينية والعالم العربي، عالمان سحريان تملؤهما الأسطورة، ويجمع بينهما تاريخ طويل من الألم، الاستعمار، والبحث عن الهوية.

فأن ينحني باولو كويلو أمام نجيب محفوظ، فهو يعترف ضمنيًا بأن الحكايات والقصص العربية لم تكن مجرد تراث محلي، بل كانت وستظل أحد المفاتيح الأساسية التي ألهمت السرد الحديث في العالم بأسره.

هذا الاعتراف يعيد إلى الأذهان مقولة بورخيس:”نحن نكتب ما كتبناه دائمًا، لكن العالم يكتشفنا فقط حين يقرر الغرب أن ينظر إلينا.

“فحينما قبّل كويلو يد محفوظ، لم يكن يعبّر فقط عن الاحترام الشخصي، بل كان يقول: “لقد تعلمت من هذه اليد كيف تُكتب الحكاية، كيف يُنسج السرد، وكيف يتحوّل العالم الواقعي إلى حلمٍ طويلٍ يسكن الورق.”

ليس في هذا التصريح أدنى مبالغة؛ ففي الأدب العربي، هناك مهارة فريدة في تشكيل الحكاية تتجاوز مجرد السرد إلى البناء العميق، حيث تصبح القصة بنية متكاملة تشبه المتاهة التي يجد القارئ نفسه فيها، ولا يخرج منها إلا وقد تغيّر.

لنأخذ على سبيل المثال “ألف ليلة وليلة”، حيث الحكي ليس فقط وسيلة لنقل المعرفة، بل هو فعل مقاومة ضد الموت، ضد الصمت، بل ضد الزمن نفسه.

في هذا السياق، نجد امتدادًا طبيعيًا لهذا التقليد في أعمال نجيب محفوظ، الذي استطاع أن يكتب الحارة المصرية وكأنها كونٌ بأكمله، حيث تتلاقى الفلسفة مع الأسطورة، والواقع مع الحلم.

الأمر نفسه ينطبق على باولو كويلو، الذي يكتب عن رحلة البحث عن الذات وكأنها قدرٌ لا فكاك منه. كويلو لم يكن ليستطيع أن يكتب “الخيميائي” لو لم يكن هناك في قلب التراث العربي والخيمياء الإسلامية روحٌ تُلهمه.

ومن المفارقات أن البطل في “الخيميائي” يعبر الصحراء إلى مصر ليكتشف كنزه ويحقق مجده الشخصي، وكأن الحكاية تدور في حلقة سرية، وتعود دائمًا إلى مهدها الأول.

هذا يثبت أن السرد إرث إنساني عالمي، عابر للقارات وللأزمنة. وربما السؤال هنا ليس فقط لماذا انحنى كويلو، بل لماذا شعر أنه مدين لهذا الأدب العربي؟ .

فالسرد ليس ملكًا لثقافة واحدة، بل هو إرث كوني، تتناقله اللغات مثلما تتناقل الأجيال الذكريات.لقد استطاع نجيب محفوظ أن يصنع من القاهرة أفقًا عالميًا، كما استطاع غابرييل غارسيا ماركيز في “مئة عام من العزلة” أن يحوّل قرية ماكوندو إلى أسطورة تتجاوز كولومبيا، وكما استطاع خورخي لويس بورخيس أن يحوّل المكتبة إلى كون لا نهائي.

إذا، حينما تقبل أمريكا اللاتينية يد الأدب العربي، فإنها تعترف ضمنيًا أن الحكاية العظيمة لا تُكتب في المركز فقط، بل في الأطراف أيضًا، حيث توجد الحكايات الحقيقية، تلك التي تولد من رائحة الشوارع، من طقوس الحياة اليومية، ومن عبير الأسواق التي تتحول إلى سرد خالد.

و بالتالي، يد محفوظ التي قبّلها كويلو ليست مجرد يد كاتب، بل هي يد امتدت من عمق التراث العربي إلى الحداثة، انها يدٌ تحمل ذاكرة ألف عام من السرد، يدٌ كُتبت بها حكايات المقاهي، وأحلام البسطاء، ومصائر الشخصيات التي ما زالت تسكن أذهاننا.

إنها اليد التي تكتب عن الواقع لكنها تجعله يبدو كأنه حلم، والتي تنسج الأسطورة لكنها تجعلها تبدو حقيقية.

ولعل الأجمل في هذا المشهد أن اليد التي امتدت إلى كويلو كانت هي نفسها التي كتبت عن القاهرة بكل تناقضاتها، عن زقاق المدق، عن الحرافيش، وعن تلك المدينة التي تتحرك ككائن حيّ، يشهد على صعود الأبطال وسقوطهم.

و لأن الأدب ليس مجرد كلمات، بل هو اعتراف بين عوالم مختلفة، فإن هذا اللقاء كان أكثر من مجرد تحية.

لقد كان جسرًا بين ضفتين، بين سردين، وبين رؤيتين متميزتين للعالم.

وهكذا، بلا شك، يصبح الأدب لغةً عالمية.

فحينما قبّل كويلو يد محفوظ، لم يكن يقبل يد رجل، بل كان يقبل ذاكرة، إرثًا، وتاريخًا من السرد العريق والمُلهم.

إنه مشهد يعيد تعريف الأدب كحوار مستمر بين الثقافات، حيث يعترف السرد الأمريكي اللاتيني بفضل وتفوق السرد العربي، وحيث نجد في النهاية أن الحكاية تظل دائمًا لغةً عالميةً لا تعترف بالحدود، لكنها تحتفظ لنفسها بحق الاعتراف بالجميل.

ربما كان هذا المشهد لحظة عابرة في لقاء بين كاتبين، لكنه، في جوهره، تلخيص عميق للعلاقة بين الأدب العربي والأدب العالمي، وللرحلة الطويلة التي يخوضها السرد عبر الزمن، بحثًا عن أولئك الذين سيحملونه إلى المستقبل.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button