الْكِتَابُ الأَخِير

“الكُتُبُ هِيَ الطَّائِرَةُ، القِطَارُ، وَالطَّرِيقُ. هِيَ الوِجْهَةُ وَهِيَ الرِّحْلَةُ. هِيَ المَنْزِلُ.”
ـــ آنا كويندلن

فوزي، 75 سنة، جالس فوق سطح البيت، وحرارة أغسطس لا تُطاق. يطيل النظر إلى البحر العميق الأزرق الممتد أمامه. إنه على مبعدة ثلاثة أميال من مسكنه، لكن لا رغبة لديه في السباحة. يريد فقط أن يسترجع الماضي كشريط سينمائي طويل. الأمر أشبه بتجربة غارقة في النوستالجيا والارتقاء الفني. و همس لنفسه ساخرًا:
“أغلقوا جميع دور السينما تقريبًا، لكن ما أشبه استرجاع الماضي بصوره المشرقة وتفاصيله الدقيقة بلحظات توضيب الأفلام قبل أن تخرج جاهزة للمشاهدة.”
طوفان من الذكريات..
يرتشف فوزي قهوته ببطء، ينظر من خلال دوائر الدخان المتصاعد إلى هاتفه المركون جانبًا، والذي يتوهج على إيقاع رسائل واتساب التي لا مجال لقراءتها الآن. فكّر فوزي:
“رباه! العالم تغيّر. المعرفة صارت أسرع من الضوء، كل شيء صار متاحًا بلمسة إصبع.”
البداية كانت عام 1981.
لا شيء يشبه ذلك الزمن الذي قضاه متنقلًا بين المغرب وفرنسا، راكبًا الحافلات والقطارات والطائرات، حاملًا من أوروبا إلى إفريقيا حقيبته الثقيلة المليئة بالكتب. كان غارقًا حتى أذنيه في إعداد أطروحة الدكتوراه، يلتهم الأوراق بشراهة لا حدود لها، يبحث عن شيء لا يبدو أنه موجود، أو يمكن القبض عليه بسهولة.
و اليوم، في الخامسة والسبعين، لن تجد في شعره الأبيض شعرة سوداء واحدة، عيناه متوهجتان لكن وجهه متعب، مثل صفحات كتاب قديم قضى حياته في تصفحه.
كل يوم، ينظر فوزي إلى الشباب من حوله، وجوههم الشاحبة تضيء بانعكاس شاشات هواتفهم، أصابعهم تتراقص فوقها، وأعينهم غارقة في تيارات لا نهاية لها من الفيديوهات القصيرة. يضحكون، يبتسمون، لكن في داخلهم شيء أضخم من الفراغ. يتذكر نفسه شابًا، بين رفوف المكتبات، بين الأوراق المصفرة التي تفوح منها رائحة الغبار والعلم.
ذاك زمن، وهذا عصر آخر.
لم يكن تنقل فوزي بين أكادير وباريس للنزهة، بل كان سلسلة رحلات متكررة بلا راحة. كان روحا مشتعلة و جسدا منهكا يعبر ضفتي المتوسط، لاهثًا خلف المعرفة كمتشرد يبحث عن فتات الطعام. يركب القطار لساعات، يجلس بجوار غرباء لا يكلف نفسه عناء الحديث معهم، وفي كل مرة، يخرج كتابًا ويدفن وجهه فيه حتى يبتلعه الوقت.
و عندما وصل فوزي إلى باريس لأول مرة، شعر بالرهبة. لم تكن المدينة مدهشة بسبب معمارها الفريد أو شوارعها الواسعة، بل لأنها كانت تمثل حلمًا طويلًا و مكانًا يمكن أن يجد فيه أجوبة لم تكن موجودة في بلده. أمضى أيامه في المكتبة الوطنية، يقرأ حتى يصاب بالدوار، يخطّ الملاحظات بجنون، ينسخ الفقرات، يلعن تلك اللحظات التي يضطر فيها إلى النوم. لكنه لم يكن يشعر بالملل، لم يكن يشعر بأي نوع من الضياع.
أما اليوم؟
قلة قليلة تكلف نفسها الذهاب إلى المكتبات أو شراء الكتب. صار العالم مجرد شاشة كبيرة، تحول الى محيط من المعلومات التي تطفو بلا عمق ولا روح.
“كم كنت سأدخر من المال؟” همس لنفسه وهو يتلذذ بقهوته.
“كم من سنوات عمري كنت سأوفر لو وُلدت في هذا الزمن؟”
لكنه كان يعرف الإجابة. لو وُلد في هذا العصر، لأصبح مثل الملايين: لا يتعب لأجل العلم، لا يجتهد ويسافر لأجل المعرفة. وهذا، في نظره، كافٍ ليجعله يفقد بالكامل وجوده وهويته.
كان فوزي يراقب ابن أخته، أيمن، و هو شاب في العشرين من عمره. لم يقرأ الفتى كتابًا واحدًا في حياته لكنه يعرف كل شيء عن الترندات. يقضي أيامه يضحك على التفاهات، يشارك سيلًا لا ينقطع من الصور، يراقب ردود الأفعال كل دقيقة، يسعى وراء اللايكات كمدمن هيروين يبحث عن المزيد من الجرعات. فوزي يراقبه وهو يغرق في هذا المستنقع، يفتح غوغل أو شات جي بي تي ويكتب أي سؤال يخطر بباله، فيحصل على إجابة مفصلة في ثوانٍ معدودة… ثم ينسى كل شيء بعد أقل من دقيقة.
لا أثر. لا عمق. لا شيء. لا حياة لمن تنادي.
“أنت محظوظ”، قال فوزي لابن أخته. “عندك كل شيء بلمسة إصبع، لو كنت مكانك لكتبت رسالة الدكتوراه في ثلاثة شهور.”
لكن هل فهم أيمن شيئًا؟ فقط رماه بابتسامة بليدة وواصل اللعب بهاتفه، وكأن فوزي يتحدث إليه بلغة منقرضة.
و بعد يومين، قرر فوزي أن يدمن الهاتف على سبيل التجربة. فتحه، كتب نفس العناوين التي كان يلهث خلفها قبل أربعين عامًا. في ثوانٍ، ظهرت أمامه الأبحاث، الملخصات، المقالات، الأفكار… أربعون عامًا من الكدح والنصب تجمعت أمام عينيه.
لكن… شتان بين هذا وذاك.
كانت كل المعارف بين يديه، لكنه لم يشعر بأي متعة. لم يشعر بأي نصر. بأي فتح. كانت أداة مذهلة، نعم، وتسهيلًا لا مثيل له لحياة الباحثين… لكنه في العمق لم يشعر بأي شيء على الإطلاق.
و في المساء، خرج فوزي يتمشى على الكورنيش. لاحظ أن الشوارع لم تتغير كثيرًا رغم التحول الرقمي الكاسح. الجو بارد قليلًا، الهواء يحمل رائحة الرطوبة. نظر إلى السماء، إلى النجوم القليلة التي نجت من تلوث المدينة، وفكر:
“هل كان كل ذلك يستحق العناء؟”
تذكر أيام الجوع والبرد، تذكر كيف كان يمشي في شوارع باريس وحيدًا، يقتات على القهوة الرخيصة والسندويتشات الباردة، يقرأ ويكتب بلا توقف كأنه يهرب من شيء لا يعرفه. تذكر كيف كان يمسك الورقة والقلم، يعيد الكتابة، و يلعن الكلمات التي لا تأتي بسهولة.
اليوم، كل شيء يُملى على من يريد بلمسة زر. الذكاء الاصطناعي يكتب مكانك، يصحح أخطاءك، يختار كلماتك بدقة و ربما أفضل منك. كل شيء صار سريعًا… لكن هل له طعم؟ هل ثمة مجهود؟
و بعد أسبوع، وقف فوزي أمام واجهة مكتبة قديمة وسط المدينة. نظر إلى الكتب المغمورة بالغبار، شعر بوخزة حنين في صدره. دخل، مشى بين الرفوف، مدّ يده، أخذ كتابًا من الطبعة نفسها التي امتلكها قبل أربعين عامًا. قلب صفحاته ببطء، استنشق رائحته. كان هذا هو الشيء الحقيقي الوحيد الذي تبقى.
خرج من المكتبة، وقف أمام المقهى الذي كان يداوم الجلوس فيه قبل نصف قرن. نظر إلى الشباب الذين يحدقون في هواتفهم كأنهم يعبدون إلهًا آخر. فكر أنهم في عالم موازٍ، حيث لا يوجد تعب، ولا جهد، حيث المعرفة بلا ثمن.
لكنه كان يدرك في العمق أن كل شيء في الحياة له ثمن.
جلس فوزي في المقهى، نادى النادل طالبًا كأسًا من الشاي بالنعناع… مرت دقائق، و اخيرا استل هاتفه من سترته، نظر إليه للحظة، ثم أغلقه وركنه جانبًا.