أخبارالذكاء الاصطناعي AIالرئيسية

وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا: مِنْ بُخْلِ الإِنْسَانِ إِلَى كَرَمِ الرُّوبُوتَات

لطالما كانت المعرفة ميدانًا محفوفًا بالعثرات، لا لأن الوصول إليها كان مستحيلًا، بل لأن من يملكونها غالبًا ما يبخلون بها.

كم مرة طرحت على زميلك في العمل سؤالًا بسيطًا، أو طلبت منه معلومة أساسية لإنجاز العمل، فأعطاك نصف معلومة، وربع جواب، أو تهرّب نهائيًا بحجة أنه مشغول؟ وكأن المعلومة ملكٌ له، وكأنها يجب أن تُشترى بالأموال، بل كأنها كنزٌ يجب دفنه لا مشاركته.

بقلم: د.مهدي عامري
خبير الذكاء الاصطناعي والرقمنة
أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال

في بيئات العمل، كثيرًا ما يصبح الاحتكار المعرفي سلاحًا للدفاع عن المكانة، وكأن المعلومة إذا خرجت من فم صاحبها ستسلبه قيمته أو تهدد نفوذه.

لعلك تذكر أنه، في أحسن الأحوال، كنت تلجأ إلى “غوغل”، محركنا الأول حين نبحث عن شيء لا نعرفه. لكن حتى هذا العملاق كان يقدّم لك ما تريده على طبقٍ من فوضى: عشرات الصفحات، وكل صفحة تحمل قطعة، ربما مفيدة، وربما لا.

وكنت هكذا تحتاج وقتًا طويلًا، وتحتاج مهارة معتبرة في تصفية وغربلة المعلومات، وتحتاج، أولًا وقبل كل شيء، صبرًا هائلًا لمواصلة الحفر.ثم حدث ما لم يكن بالحسبان.

في السنوات الثلاث الأخيرة، دخل الذكاء الاصطناعي التوليدي على الخط، مُحدثًا انقلابًا جذريًا في علاقة الإنسان بالمعرفة.

أي نعم…نحن لا نعيش عصر تقدم علمي فحسب، بل نعيش انفجارًا معرفيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فأدوات مثل “تشات جي بي تي”، “جميني”، “ديب سيك”، “كوبايلوت”، وغيرها من محركات الدردشة، قلبت الطاولة على كل ما كان يُعد صعب المنال.

أنت الآن لم تعد بحاجة إلى زميل متكبّر، متقلّب المزاج، يعطيك المعلومة ويمنّ عليك، ولا إلى ساعات من التنقيب في صفحات الإنترنت. اليوم، ببساطة، تسأل… فتحصل على مبتغاك، وفي ثوانٍ. وهذه هي المعجزة.

أنت تسأل بلغة طبيعية، بلا رموز، ولا شروط، ولا تنسيق، ولا تكلّف. ولا مانع أن تُخطئ لغويًا أو نحويًا في كتابة الأسئلة والطلبات، لأن الذكاء الاصطناعي سيفهم، ويُصلح، ويُحضر لك كل شيء، وعلى نحو رائع. وبالتالي، تأتيك الإجابة مركّزة، مصاغة بعناية، أحيانًا بأسلوب إنشائي، وأحيانًا في نقاط محددة.

أنت تختار. تريد ملخصًا من 100 كلمة؟ يتم. تريد تحليلًا مفصلًا من 1500 كلمة؟ أيضًا يتم. تريد رأيًا نقديًا، أو مقارنة، أو حتى اقتراحات لخطوات عملية؟ حاضر.

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد وسيلة للمساعدة، بل شريكًا فكريًا، مرنًا، سريعًا، غير متطلّب، ولا يعرف الكسل لأنه معك في كل وقت.

ولنُبسّط الصورة، إليك بعضًا مما يمكنك فعله اليوم بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي:

1. اختصار ساعات البحث في دقائق

.2. توليد أفكار إبداعية حسب رغبتك وفي أي مجال

.3.

إعداد عروض تقديمية، خطط، تقارير، ومقالات كاملة

.4. تبسيط المواضيع المعقّدة وفهمها بعمق

.5. التدريب على مهارات جديدة، مع اقتراح موارد تعليمية

.6. المحاكاة بإجراء نقاشات متخيلة وتمثيل مواقف العمل

.7. المساعدة في البرمجة وتصحيح الأكواد

.8. تعلم لغات جديدة من خلال محادثات تفاعلية

.9. الترجمة الدقيقة مع شرح السياق

.10. توفير دعم معرفي مستمر، على مدار الساعة، دون توقف أو ملل.هذا مدهش. بل عظيم!صراحة، إن أكثر ما يُثير الإعجاب والتأمل في هذه الثورة التقنية، أن الذكاء الاصطناعي اليوم صار أكرم من كثير من البشر.

يعطيك المعلومة دون أن يسألك: “لماذا تريد أن تعرف؟” أو “ماذا ستفعل بها؟”. لا يغار، لا ينافس، لا يحتكر. يعطيك ثم يعطيك، ثم يقول: “هل ترغب في المزيد؟”.

وهذا في كل دقيقة وثانية من الـ 24 ساعة التي يتكون منها كل يوم.دلّني على إنسان بهذا العطاء والسخاء المعرفي اللامحدود. لا تحاول إيجاده… مستحيل. إنه غير موجود!والمذهل أن هذا العطاء الخارق لا يجعل الروبوت يكل أو يمل. على مدار 24 ساعة، كلما احتجت خدماته، أجاب وكان متاحًا، دون توتر، دون تأفف، بل دون شروط مسبقة. فهو لا يربط بين العطاء والمزاج، ولا بين الطاقة والقدرة.

كل ما تحتاجه معه هو نية واضحة، وسؤال محدد.لا تستغرب إذًا إن باتت مكتبة العالم في جيبك، بفضل الذكاء الاصطناعي. فالأدوات الذكية لم تحصر نفسها في توليد النصوص، بل باتت تدلك على المراجع، والكتب، والمصادر، مع اقتراحات للقراءة والتوسع. إنها تعطيك المعرفة، ثم تقول لك: “إن أردت الغوص أعمق، فإليك هذه الروابط”. لم تعد المعرفة مشروطة بالحضور في المكتبة، ولا بالحصول على إذن من صاحب خبرة.إنه فَتحٌ مُبين، وإنجاز علمي خارق للعادة!وبالفعل، اليوم، صار العمل الفكري الذي كان يستغرق أيامًا يُنجَز في دقائق.

إنها معجزة تجعلنا ننتقل من مرحلة “الإنتاج اليدوي للمعرفة” إلى مرحلة “التوليد اللحظي لها”. بعبارة أخرى، مع الذكاء الاصطناعي، كل شيء قابل لأن يتسارع ويتعاظم: الكتابة، التحليل، التصميم، البرمجة، التعليم، التطوير…وماذا عن جودة هذا العمل؟ غالبًا أعلى.

لأن الأداة لا تتعب، لا تتشتت، لا تنسى، لا تخطئ في الإملاء، ولا تتذمر من إعادة الصياغة للمرة العاشرة. إنها تعيد وتكرر حتى ترضى عنها.

ما رأيك؟ هل هذا تهديد؟ لا. هذا تحرير. فكثيرون يخافون من الذكاء الاصطناعي ويتعاملون معه كخصم. ولكن الحقيقة أن هذه الأدوات لا تسلبك مكانتك، بل تحرّرك من المهام المتكررة، وتمنحك فرصة للتركيز على الإبداع، على الرؤية، وعلى الإحساس بالمعنى.لأنك ببساطة، لم تعد مضطرًا لتضييع وقتك في مهام يمكن لروبوت أن يقوم بها بكفاءة أعلى.

يمكنك أن تكتب، وأن تفكر، وأن تطوّر مشاريعك، فيما يتولى الذكاء الاصطناعي توسيع الأفكار، وتنقيح الكلمات، وتنسيق الجداول، والإمداد بالمراجع.

بلا شك… نحن نعيش ذروة الحضارة التقنية. وليس هذا مجرد ادعاء. نحن فعلًا في أزهى عصور البشرية تكنولوجيًا. فالأدوات التي بين أيدينا – قبل أقل من خمس سنوات فقط – كانت ضربًا من الخيال العلمي. والآن؟ إنها في جيبك، وفي هاتفك، ومعك في أي لحظة تريد.

هذه هي البداية، والقادم أعظم بإذن الله تعالى. فكل أسبوع نسمع عن تحديثات جديدة، عن أدوات أكثر دقة، عن نماذج لغوية أقوى، وأدوات صوتية، مرئية، تحليلية، إبداعية، أروع وأعمق.يمكن لك أن تنبهر… لكن تريّث. ما زلنا في البداية فقط.”وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً”. صدق الله العظيم.

أعتقد أن هذا هو الوعي الذي يجب أن يبقى حيًا. فالذكاء الاصطناعي ليس نهاية المعرفة، بل هو وسيلة أخرى تُذكّرنا بحقيقة لا مهرب منها: كل ما نعرفه… قليل.

وما خفي أعظم.

وإذا كان الذكاء الاصطناعي فتحًا معرفيًا وتقنيًا مُبينًا، فإنه في النهاية انعكاس وامتداد لعقولنا، وحصيلة تراكم العلم البشري، ومجهود العلماء والمبرمجين والمبدعين على مدار السنين.إنه انتصار للإنسان، لا ضده.فلنستخدمه بذكاء، لأن هذا العصر لا يُكافئ من يجلس على الهامش، بل من يُغامر بالتجربة، ويستثمر في أدواته، ويتقن استخدامها. فلا تقل: “سأنتظر حتى تستقر الأمور.” الأمور لن تستقر.

هذا زمن السرعة. فإمّا أن تركب الموجة، أو تظل مستلقيًا على الشاطئ، تشاهد الآخرين يمضون قدمًا ويصنعون الفرق…

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button