ذَكَاءٌ بِلَا دَهْشَة : قِصَّةُ عَلَاء الدِّين وَٱلْمَعْرِفَة ٱلْمُخْتَصَرَة

لَيْسَتِ الغَايَةُ مِنَ المَعْرِفَةِ أَنْ نَمْلَأَ الذَّاكِرَةَ، بَلْ أَنْ نُشْعِلَ الرُّوح — سورين كيركغارد

خبير الذكاء الاصطناعي و الرقمنة و استاذ باحث بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال
في مساء شتوي هادئ، جلس علاء الدين أمام حاسوبه المحمول. علاء شابٌ محبٌّ للاطلاع، عاشقٌ للمعرفة، لكنه – ككثير من أبناء جيله – مُستعجل. كتب في مربع البحث سؤالًا: “من هو فردريك نيتشه؟”
لم ينتظر طويلًا، فجاء الرد في ثلاث ثوانٍ: منمق، دقيق، بلا أخطاء، وكأنه قطعة أدبية مصقولة. قرأه علاء الدين بإعجاب، نسخه، وأضاف اسمه أسفله، وكأن المعرفة أصبحت ملكًا له.
في اليوم التالي، سأله صديقه عن الجنون في فلسفة نيتشه. تلعثم علاء. لم يتذكر شيئًا. لم يشعر بشيء. لم يكن هناك أثر.
في تلك اللحظة، شعر أنه خان نفسه. لم يخنه الروبوت — لقد أعطاه ما طلب. لكنه هو، علاء الدين، لم يسلك الطريق، لم يعش الرحلة. أخذ الإجابة دون أن يتحوّل. عرف دون أن يفهم. أجاب دون أن يتعلّم.
حينها، بدأ علاء الدين يطرح الأسئلة: هل المعرفة أن نعرف الجواب؟ أم أن نتحوّل بفعل البحث عنه؟
في كتابه لذة النص، لا يعلّمنا رولان بارت كيف نقرأ فحسب، بل كيف نُصاب بالقراءة، كيف تُحدث المعرفة فينا ارتباكًا وحركة. يرى بارت أن لذة الفكر ليست في الوصول إلى الجواب، بل في العبور إليه: في التوقف، التردد، الخطأ، والانفعال.
ومن جانبه، اكتشف علاء الدين أن الذكاء الاصطناعي يقدّم طريقًا مختصرًا، بلا شغف، بلا تعب، بلا دهشة. وكأن الجواب يأتينا معقّمًا من كل أثر إنساني.
قبل عشرين سنة من لحظة كتابة هذه السطور، كان جدُّ علاء يقول له: “العلم لا يدخل من الأذنين فقط، بل يجب أن نسعى إليه بالمشي والسفر والجهد والمكابدة.”
جدُّه لم يقرأ بارت، لأنه كان من خريجي التعليم الشرعي العتيق، لكنه عرف من خلال تجربته أن المعرفة تُبنى بالخطى، بالسهر، برائحة الكتب القديمة، وبحرارة السؤال.
أما اليوم، فقد صار علاء الدين يتلقى المعلومة كوجبة سريعة. نعم، إنها شهية، لكن بلا دخان، بلا رائحة، لا تحمل عناء الطهي… لذلك فهي أشبه بوجبة معلبة، رديئة الطعم.
ثمة عدد لا نهائي من الدروس نتعلّمها من علاء الدين ومصباحه السحري — ألا وهو الذكاء الاصطناعي…
هناك نُبل في أن نجهل شيئًا مؤقتًا. أن نقول: “لا أعرف الإجابة الآن، لكني سأبحث.” أن نتوه في مكتبة، أن نغلق الكتاب لنفكر، أن نكتب على الهامش… هذا هو الطريق الحقيقي والطبيعي للتعلُّم.
وبالتالي، فإن ذلك الزمن الذي يفصل بين السؤال والجواب، ليس وقتًا ضائعًا، بل هو زمن التحوّل.
لقد أدرك علاء الدين أن الذكاء الاصطناعي يختصر هذا الزمن، لكنه يختصر معه أيضًا فرصة أن نصبح شيئًا آخر… أعمق، وأنضج.
والآن، تخيّل معي أنك تشاهد فيلمًا مدته ساعتان بكل تحولاته وتفاصيله، ثم تشاهده لاحقًا ملخصًا في دقيقتين.
الملخص يخبرك بما حدث، لكنه لا ينقل إليك الحالة العاطفية والشعورية للفيلم.
كذلك المعرفة.
بات علاء الدين يدرك أن الطريق إلى الفهم يحتاج بطئًا، وظلالًا، ومساحة للتفكير، وأخرى للتأمل، وصمتًا طويلًا، وأحيانًا شيئًا من الملل…
فما موقع الذكاء الاصطناعي من كل هذا؟
إنه يقدّم لنا النهاية… ويُفقدنا حلاوة الرحلة وجماليتها.
وهكذا، حين تصبح المعلومة عذرًا لعدم التفكير، يمكن لعلاء أن يسأل نفسه: ماذا نفعل بكل هذه المعلومات؟ هل تغيرنا؟ هل تجعلنا أعمق؟ أم أننا فقط نكدّسها، دون غربلة أو تفكير؟
تفاعلًا مع هذه الأسئلة، من المؤكد أن رولان بارت كان سيخاطب علاء قائلًا: “المعلومة التي لا تُقلقنا، لا تساوي شيئًا، والمعرفة التي لا تُربكنا، ليست معرفة، بل مجرد تكرار.”
انطلاقًا من ذلك، يتبيّن أن الخطر الحقيقي في الإدمان غير المعقلن على الذكاء الاصطناعي يكمن في اختزال العالم داخل شاشة.
والآن، هل يدرك علاء الدين – وكل من يشبهه – أن الخطر ليس في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في أن نختزل به التجربة البشرية؟
الخطر هو أن نتخلى عن الخطأ، عن الصمت، عن الحيرة، وعن تلك الإجابات الصادقة والجميلة: “لا أعلم.”
ختامًا، في عصر السرعة، يجب أن نرى في البطء فعلًا مقاومًا.
أحيانًا، يجب أن نقرأ كتابًا أو رواية بلا هدف — فقط من أجل المتعة والمؤانسة.
وأحيانًا أخرى، نكتب بلا جائزة، ونتمهّل في عمليات القراءة، والاستذكار، والفهم — وهذه، بامتياز، أفعال ثورية نحتاجها في زمن التكنولوجيا فائقة السرعة.
تذكّر معي: الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، لكنه ليس بطل هذه القصة. ليس هو من يجب أن يقود السفينة، بل الإنسان، بقلبه، بتاريخه، وذاكرته المتعبة.
وفي النهاية، أرجو أن يكون علاء الدين قد تعلّم درسه:
المعرفة ليست في الجواب، بل في التواضع، والبحث المضني عن المزيد، وفي حالة التنوير والتحوّل التي تسبق الجواب. قال تعالى: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.