الخامس والعشرين من رمضان: يوم انتفض المولى عبد الرحمن ضد فوضى الفتاوى

ظاهرة فوضى الفتاوى وانتشارها بين الناس بدون ضوابط، مع ما تخلفه من ضرر بالغ على الأفراد والمجتمعات، ليست وليدة اليوم، وإن كانت قد برزت في عصرنا بشكل أكبر بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات، حتى أصبح كل من هب ودب مفتيا في أمور الدين العظيمة منها والدقيقة، وانبرت الدول الإسلامية تسن القوانين وتنشئ المؤسسات وتعقد المؤتمرات والحملات الإعلامية، رغبة منها في الحد من هذه الظاهرة الغريبة.
وبالعودة إلى التاريخ، وفي مثل هذا اليوم الخامس والعشرين من رمضان، سنة 1274 هـ الموافق لـ 9 ماي 1858 م، أمر السلطان العلوي المولى عبد الرحمن برفع يد المفتين عن الفتوى بطنجة نظرا لفساد الأحكام والتبليس على العوام بحسب ما جاء في الظهير الشريف الذي خاطب به السلطان أحد رجالات دولته وهو القائد محمد بن العربي السعيدي، فضلا عن ظهير آخر موجه لقائد اسمه مولاي العباس، أوردهما مؤرخ الدولة العلوية مولاي عبد الرحمن بن زيدان في الجزء الثاني من كتابه (العز والصولة في معالم نظم الدولة) فقال: “كان الإفتاء في دولتنا الشريفة من أسمى الوظائف وأعزها لا يرخص فيه إلا لمن علمت مروءته ومتانة دينه، ومن طرأ عليه أو ظهر منه ما يخالف ما ذكر يعزل ويضرب على يده، وربما عوقب ونكل به، ولا أحتاج إلى إقامة دليل على ذلك، زائد على ما تضمنه الظهيران الشريفان الرحمانيان، لتطلب الحجة والبرهان، هذا نص أولهما بعد الحمدلة والصلاة والطابع نقش داخله (عبــد الرحمن بن هشام وفقه الله) خديمنا الأرضى القائد محمد بن العربي السعيدي، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فنأمرك أن ترفع يد المفتين عن الفتوى بطنجة وغيرها من جميع ايالتك لما فيها من فساد الأحكام، والتلبيس على العوام، حتى يعتقدوا الباطل حقا، وليسترسلوا على اللدد والفجور في الخصام، مع ما عمت به البلوى من كثرة الجهل وضعف الدين، وأمر القاضي بطنجة أن لا يقبل فتوى ترد من الآفاق عدى فتوى الفقيه السيد محمد عزیمان قاضی تطوان، وفتوى الفقيه السيد محمد .. قاضي أصيلة ، ومن تعدى بافتاء بعد النهي فازجره بما يليق به ، والسلام”.
ثم يواصل ابن زيدان بإيراد الظهير الثاني: “ولدنا الأبر الأرضى مولاي العباس أصلحك الله ورضي عنك وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد، فقد رفع إلينا القائد علال بن عبد الله رسم اشتراء بعض إخوانه عرصتين بمراكشة من رجل اسمه محمد بن عبد الله اكرام، وكان وقع فيه نزاع بين البائع والمشتري، ورفعت القضية للفقيه السيد المهدى بن سودة فأفتى بصحة رسم الشراء، وإلغاء ما احتج به البائع حسبما بخط يـده أسفل الرسم المذكور، فالعمل على ما أفتى به في النازلة، ولا يلتفت إلى غيــره، ومن أفتى في هذه النازلة أو غيرها من النوازل التي أفتى فيها أو حكم فيها السيد المهدى المذكور بخلاف ما قال فأمر الطالب أحمد بوستة أن يقبض عليه، ثم اعلم أن المفتيين اللذين كانا قديمين بمراكشة قد عزلنا واحدا منهما وبقــي الآخر وهو المطيع أخو السيد السعيد، والآن فتفاوض مع القاضي الجديد ومـــع غيره من أهل الدين والعلم في تعيين من يصلح أن يتصدى للفتوى ممن يتقى الله، فان ألفيته على الوصف الذي ينبغي فاذن له في تعاطيها، وأخو السيد السعيد وجه عليه وتكلم معه منك إليه، فإن اتقى الله وأفتى بما علمه الله من غير شهوة ولا غرض ولا إفتاء للخصمين معا فها هو على فتواه، وإن كان بخلاف ذلــك فيؤخر أيضا، وأعلم بهذا بوستة والسلام. في 6 ذي القعدة عام 1273 هـ وكذلك من أفتى من هو معين لها فأمر بوستــة أن يقبض عليه”. وعلق ابن زيدان على النص الثاني بقوله: “صح من أصله المحتفظ به بالمكتبة الزيدانية”، ثم زاد ملاحظة عن فوضى الفتاوي في عصره فقال: “أما اليوم فقد فتح باب الفتوى على مصراعيه، واختلط الحابل بالنابل في ذلك، وتفاحش الفجور، والله عاقبة الأمور”.
وبحسب ما جاء في كتاب (معلمة الفقه المالكي) لمؤلفه البروفيسور المرحوم عبد العزيز بنعبد الله، فقد ظهرت “خطة المفتي بالمغرب في عهد محمد الشيخ السعدي اقتباسا من الأتراك، وقد تقلد منصب الفتوى بفاس في عهد محمد الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جلال المغراوي التلمساني نزيل فاس كما تقلدها بمراكش أيام عبد الله الغالب محمد بن شقرون بن هبة الله الوجديدي التلمساني ( الدوحة ص 90 و86) وكان يعتبر من أسمى الوظائف لا يرخص فيه إلا لذوي المروءة والدين”.
وجاء في نفس المصدر أن (مجلس المفتين) بالمغرب كان “يعمل تارة كمحكمة عليا للنقض والإبرام وأخرى كهيئة استينافية، وهذا المجلس يجمعه السلطان عند الحاجة للنظر في قضية فقهية قبل إحالتها على محكمة جديدة، وكان السلطان يصدر الأحكام مرة في الشهر ويتلقى طلبات الإستيناف ويتقاضى أمامه الأجانب أكثر من رعاياه وأول قاض بعد السلطان هو المفتي الذي يتلقى طلبات الإستيناف، وكان هنالك ثلاثة مفتين بمراكش وفاس وتارودانت، وقد شملت عناية ملوكنا العلويين الأماجد رجالات الإفتاء في كافة أنحاء العالم الإسلامي وخاصة في الحرمين الشريفين فقد حبس السلطان سيدي محمد بن عبد الله أموالا طائلة على مفتي المذاهب الأربعة، وطلبتهم بالمدينة المنورة، كما حبس مالا عظيما على قراء (الفتوحات الإلهية) والجامع الصحيح من أهل المذاهب الأربعة بالمدينة المنورة، وكان المفتي يتلقى الأسئلة والاستفسارات والاستيضاحات في القضايا الفقهية من مجموع البلاد”.
أما في وقتنا الحالي فقد أحدث المجلس العلمي الأعلى الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء، وقد نص على ذلك الظهير الشريف رقم 1.03.300 الصادر في 2 ربيع الأول 1425 (22 أبريل 2004) في شأن إعادة تنظيم المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وتحديدا المواد 7 و8 و9 و10 من هذا الظهير، فقد قضت المادة السابعة منه: “تحدث لدى المجلس العلمي الأعلى هيئة علمية تتكون من بين أعضائه، تختص وحدها، دون غيرها، بإصدار الفتاوى الرامية إلى بيان حكم الشريعة الإسلامية في القضايا ذات الصبغة العامة”، وبموجب المادة الثامنة فإنه “يمكن للهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء المشار إليها في المادة السابقة، من أجل الاضطلاع بمهامها، تشكيل لجان علمية متخصصة يعهد إليها بدارسة النوازل والقضايا المعروضة على الهيئة وإنجاز تقارير في شأنها وتقديم الاستنتاجات المتعلقة بها. ويجوز للهيئة عند الاقتضاء، أن تستعين على سبيل الاستشارة بكل شخص من ذوي الخبرة والاختصاص من غير أعضاء المجلس العلمي الأعلى”.
ونظم الظهير المذكور صدور الفتوى في المادة التاسعة كما يلي: “تصدر الفتاوى عن الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء إما بطلب من رئيس المجلس العلمي الأعلى أو بناء على طلب يعرض على المجلس من لدن الكاتب العام. ولهذا الغرض، يتعين أن يوجه كل طلب للإفتاء إل الكاتب العام الذي يعرضه، عند الاقتضاء على المجلس الأعلى. تتخذ الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء قراراتها بإجماع أعضائها. ويسهر المجلس العلمي الأعلى على توثيق الأجوبة والفتاوى الفقهية الصادرة عن الهيئة في القضايا المعروضة عليها، والعمل على تدوينها ونشرها تحت إشرافه.
المصادر:
- العز والصولة في معالم نظم الدولة، مؤرخ الدولة العلوية مولاي عبد الرحمن بن زيدان، منشورات القصر الملكي، المطبعة الملكية 1382هـ – 1962م، الجزء الثاني ص 54-56.
- معلمة الفقه المالكي، عبد العزيز بنعبد الله، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1403هـ-1983م، ص 178-179.
- مجلة دعوة الحق العدد 224 شوال-ذو القعدة 1402هـ/ غشت-شتنبر 1982م.
- موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.