رواية طفولة بلا مطر بين النزعة الاوليغاشية والإبداع المقاوم والملتزم

بقلم/ دة بن المداني ليلة– د ابو علي الغزيوي
تقديم عام:
لقد ساهمت مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية في توجيه تيار الكتابة الروائية نحو التعبير عن الذات، فالعامل التاريخي يرتبط بانتشار الوعي البسيط الذي أخذه الطفل يعكسه على المجتمع كإحساس وقوة بالذات والرغبة منه في تأكيد تلك الذوات والعامل الاجتماعي الذي يتعلق بظروف الهجرة إلى المدينة التي عمقت في نفوسه الإحساس بالطفولة حتى أصبح الطريق الأوحد لمقاومة هذا الإحساس الماضوي، وهو الاتجاه المركب نحو الذات، والفكر والمعرفة، أما العامل الثقافي البسيط تراجع إلى اصطلاح المؤلف ادريس على هذه الثقافة المغلقة التي استهوته وهيجت قلمه لكي يعيد تفكيك هذه الذات المضاعفة، إذن كيف جاء العنوان؟ وكيف تم اختيار الشخصيات؟ وما المقصدية من هذه الكتابة الروائية؟
إن هذه النغمة المدونة هي سر الشقاء الذي كان يغلق ذاكرته، ويهبط فكره البسيط من مقامه العالي إلى درك الحياة الاجتماعية، ولجعل الذات موضوعا غنيا ووسيلة تفسيرية وحجاجية، ولكي تتخذ طابعا شموليا من خلال إبراز الاتفاق بين عالمه الأسروي وعالم المجتمع الصغير (القيلي)، فالشكل الروائي يمثل إضافة كمية ونوعية إلى الخصائص الفنية لهذا الجنس،فادريسالكريني حرص على تقديم هذا (الوليد) إلى القراء وذلك باستعمال وسائل منهجية واستقرائية وأسلوبية واجتماعية، حيث فسر لنا الحياة من خلال ربطها باليومي وبالماضي، وأيضا ليبني لنا صورة برانية من خلال ربطها بنفسيته وبواقعه المغلق،لذا جاءت هذه الدراسة كطابع شمولي يربط بين التصور النظري بالممارسة التحليلية، وبالإبعاد العاطفية والوجدانية، إذن يسعى هذا المقال إلى أن يضع بين يدي القراء هذا العمل السردي لكي يعرف الهامشية المتنوعة التي عرفها هذا المجتمع القبلي، ككل إثر مرور الجفاف عليه، وقد اختطت رواية ادريس الكريني لنفسها مسارا مخالفا لبعض الكتابات المغاربية، مستلهما في ذلك عددا من المتغيرات الطارئة ضمن هذا الواقع الممكن والمتحول، إذن تكشف الرواية عبر امتداد صفحاتها وتلاحق أحداثها التي اتخذت قالب السيرة الذاتية، عن رؤية طفل صغير مأزوم تحمل مسؤولية الرجولة كفعل سلبي يهدد سلامة وطمأنينة، بل هي في تصوره أكبر من ذلك بكثير وهي قضية الكتابة والصراع الطبقي الهامشي ذا أبعاد رمزية، وامتدادات اجتماعية واقتصادية، لذا حاول المؤلف بتشريح النص الاجتماعي إلى مستويات لغوية ورؤيا رمزية.
- التغير الاجتماعي من خلال الرواية:
يعد التغير الاجتماعي من الصفات التي لازمت الكاتب في روايته (طفولة بلا مطر)، حيث أصبح هذا التغير إحدى السنن المسلم بها، وحقيقة من حقوق المجتمع بني عمار، إذ لا يعقل أن نقرأ هذا الجنس السردي دون معرفة التغير الذي دفع ادريس الكريني إلى استنطاق هذه البقعة التي ولد فيها مستحضرا الدلالة ممتدة من الجد والأب والأم والعمة والخالة، كلها ساهمت في حدوث تغيير في عدة اتجاهات سواء على المستوى الاجتماعي، والثقافي والبيولوجي أو الأسري أو الفلاحي أو التجاري، مما جعل هذه اليم القبلية أن تكون أرضية خصبة للكتابة وللتشكيل السينمائي، من هنا يمكن أن نسمي هذا الجنس بالمدارة التكيفية حيث تواكب كل التغيرات التي تطرأ على جزء من ثقافة الطفل، ومن ثم يصبح التغير بديلا محايدا لمفهوم التقدم كما يرى الباحث فون فيزه Von Weise، حيث اتخذ هذا المفهوم تصورا كميا وقوة، مما خلق التوازن بين الأجزاء المحيطة الهامشية وبين نمط التنظيم الذي شاهده في المدرسة والثانوية وفي فرنسا، حيث بدا للطفل المحاصر أن التغيير ما هو إلا تمثلات وتصورات الغير المنطقية التي تنتشر في مجتمعه الأصلي والصغير، لأن الرواية “طفولة بلا مطر” تنقلنا من البنائية إلى الوظيفية في التنظيم الاجتماعي البسيط وعلى مستوى الحداثة المراهقة التي تتمثل في جهاز التلفاز الذي يملكه الكاتب، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الميكانيزمات الجديدة التي يملكها صاحب الدار (الأب المهاجر) المؤدية إلى التغيير داخليا وخارجيا، وعلى هذا الأساس بنيت الرواية على نظرية الصراع والتكيف، الفعلي والثقافي البسيط، لأن هذا المجتمع الصغير لا يعيش الحداثة المعطوبة إلا عن طريق هذا التلفاز دون التقدم الفعلي المستمر، لأن حضوره (التلفاز) لا يزال في طفولته،وأنه يحرك باستمرار نحو تحقيق السعادة الكاملة لسكان الحي (أو الجيران)، فالرواية تقدم لنا نظرية دائرية تنطلق صعودا وهبوطا في شكل تموجات إرادية طفولية وبنظام مطرد وبسيط، بحيث يعود هذا المجتمع الصغير من حيث بدأ، متناولا جميع الظواهر الاجتماعية (كالزيتون – الجني – السوق – المدرسة – الحانوت – الإنارة – ومشاكل التنقل والطريق المعبدة – الفقيه –المسيد) فهذه القضايا التي ظهرت نتيجة العوامل الجغرافية والتاريخية والطقوسية، حيث تعتبر ضرورية بالدرجة الأولى كحفظ كيان هذا المجتمع الصغير والعمل على انغلاقه،فالمسيد بدوره والمدرسة والحانوت هي روابط رمزية تربط الإنسان العماري بالماضي التليد وبالحاضر الكئيب.
خصائص التغير الاجتماعي حسب الرواية إذا كان كل فكر وليد واقعه ومساهم في تأطير، فإلى حد استطاعت هذه السيرة الذاتية أن تؤرخ لهذا المجتمع الهامشي؟ وكيف نقارن بين الفكر البسيط والمركب؟ كيف تعامل الكاتب مع الحداثة الفرنكوفونية؟أسئلة كثيرة تخضع للنقد والتحليل، وتجعل كل مظاهر هذا المجتمع خاضعا لقانون الوجود كما يقول هيرا قليدس وهذا التغير كما ذكرت يخلق تفاعلا اجتماعيا من نواحي الحياة الإنسانية، إذن فمن الصعب إيقاف أمامه لأنه يتسم بالاستمرارية من أجل إبداع الرغبات والقرارات دون معرفة الغزو الثقافي المبثوث من طرفه (الهجرة إلى فرنسا وإلى فاس – التلفاز – المدرسة) كلها صراعات طبقية لكونها المحرك الجوهري لكل عملية تغير، تنبثق منها تغيرات متتالية في باقي نواحي المجتمع البسيط كما يرى كارل ماركس، ونجد أيضا البعد الديني سببا أيضا في هذا التغير كما يرى ماكس فيبر من هناك هل هذا المجتمع العماري قابل للتغير؟ سؤال لازم بالحاجة والإرادة والسعادة والرغبة، فالطفل (ادريس) تمثل بعض العادات والتقاليد الموروثة دون ابتكار أو مقاومة، بل ارتبط بالماضي وإجلال موالاته سواء تعلق الأمر بالسفر أو التعليم أو إدخال التكنولوجيا الحديثة، هكذا يتضح لنا أن مفهوم التغير مفهوم عام وشامل حسب علماء الاجتماع، يهتم على الأوضاع الراهنة وعلى تبدل الظواهر والأشياء من دون أن يكون لذلك التغير اتجاه محدد بميزه، قد يتضمن تراجعا فكريا كما قامت أم الطفل عند ولوجها لإحدى الأسر الميسورة، فلم تعر لها أي اهتمام يذكر فأحست الأم بالفزع والتشظي والاحتقار، فرحت الأم وهي تجري وراءها خيوط الذل والهوان وقالت علينا العودة إلى مجتمعنا البسيط، فهذا الحراك الاجتماعي يعبر عن دينامية واستجابة لكل التغيرات التي أحدثت نتيجة تغير نوع العلاقات الاجتماعية وابتعاد الفوارق الطبقية، فالأم لم تتحرك خارج ذاتها، بل ربطت وجودها بحواجز، لذا هاجرت من المدينة إلى القرية من أجل الاستكانة والقناعة حسب لغة الدراويش، إذن فالرغبة محدودة والاستقرار في المكان الأصلي هو الرغبة والإرادة، لكن انتظرنا من الطفل أن يكسر هذا الأفق من أجل تقبل التغيير وتحسين أوضاعه بل واصل طريقه حتى النهاية، لأن الاتجاه نحو الإصلاح وترسيخ دعائم الحرية التي تنسمها في فرنسا (باريس) ساعدته على تحقيق تقدم الحياة الاجتماعية بوجود (التلفاز – والأب المهاجر في ديار الغربة)، كلها تشير إلى رفع الفرد (الطفل) من مستوى طبقي هامشي إلى مستوى طبقي أعلى، وهذا الحراك المكاني محدود في المجتمع البسيط الذي ينتمي إليه الطفل، وكان يدين بالولاء للأرض ووسائل النقل، لكن سرعان ما هاجر من بني عمار إلى فاس للدراسة، وهذا يعني أن رؤيته البسيطة للعالم الخارجي ستتساوق مع الشروط الحديثة، حيث سيخلق له تركيبا نوعيا وزيادة في التخلي عن معاناته وخلق توازن نفسي واجتماعي، وهذا الامتثال لفاس تعتبر بمثابة نظرية الضبط السلوكي والاجتماعي، بدأ يلتزم بالقواعد الجديدة من خلال تفاعله مع الأفراد الذين يطيعون القوانين المدرسية والتربوية الجديدة (ثانوية ابن خلدون)،لهذا بدأ الطفل يعرف التراتب الاجتماعي والفوارق الطبقية سواء في درس الفلسفة أو في الاجتماعيات، ونمت أفكاره المشتركة تخلق ممارسات وسلوكات معينة تميزه عن باقي المجموعات البشرية الأخرى التي ينتمي إليها، هكذا بدأ الطفل يتحدد انطلاقا من أصله الاجتماعي الجديد، ويتحرر من وضعه الاجتماعي الأولي أي يريد التخلص من قدره لكي يتدرج في السلم الاجتماعي، فالتفسير الطبقي حسب الرواية هي حقيقة إنسانية لامستها الأم والابن، والأب في الديار المهجرية، والسكان أثناء حضور الأفلام عند الطفل، لأن الإبداع هو رؤية الأشياء بنور جديد، وإيجاد حلول غير اعتيادية، فهو القدرة على رؤية استعمالات الدالة على الشخصية، وقد ذكر ماركس في هذ الصدد أن التركيب الطبقي يعكس لنا التفاوت الطبقي سواء في مجتمعه الصغير (بني عمار)، أو عند رحلته للدراسة بفاس حيث عاش على الهامش (حي المصلى)، وأيضا عند زيارته لأبيه بفرنسا، فالطفل تعايش مع هذه التناقضات الداخلية، فحاول جاهدا أن يتسلق هذا الشرف الاجتماعي بواسطة الشهادة المدرسية كرمز رأسمالي كما يرى بيير بورديو، لأن الانتقال من الاجتماعي إلى الثقافي، وأخيرا إلى الاقتصادي، ويذكر الطفل ادريس أن الطبقة الاجتماعية المهيمنة في قريته هي إقطاعية مع بروز الفئة من المزارعين البسطاء، فالتباين بين من يملك ومن لا يملك، جعل لينين بدوره أن يبرز لنا بعض الوسائل الإنتاجية التي رأيناها في الرواية والتي ذكرناها، لا التفاوت الطبقي ببعده المكاني والمجالي.
انطلاقا من هذا العنوان نستشف أن الكاتب يحاول دوما أن يستحضر الذاكرة كمركز بكل قدراته المادية في المحيط، كلحظة تقليدية وكامتداد إلى الأفاق والاستجلاب، حيث لم يعد هو نفسه مستحيلا من الناحية الفنية أو اللغوية لرؤية كل شيء وتفكيك رموز كل شيء حتى لو كان ذلك في الأقاصي البعيدة (كالجد، أو العمة)، إذ أصبح بإمكان الطفل وفق رؤية اختلافية أن يضيع تمثالا لكي يعرض تفوقه أمام التلاميذ، لكن الأم ببساطة وعيها غيرت أفق الطفل المبدع أمام غطرسة الجهل بوصفها ذاتا سجينة كونية مجردة من الاختلاف، وملتزمة بالأوامر والنواهي الإسلامية، وهذا لا يشبع وجوده المسرح كعملية إبداعية بل أصبحت هي شرطي العالم، يجهل العالم ولا يريد أن يعرف أي سلم للقيم غير سلم قيمه، وهذا ما دفع الطفل ثمنه، ومن خلا لهذا التصور المثير تتمخص صورة التقليد لا هي ناصعة البياض ولا هي قاتمة السواد موغلة في الإنكار كما يرى ريجيسدوبريهورينوجيرار في كتاب ماذا تبقى من الغرب؟ تر مراد دياني (الغلاف)، لأن صورة الطفل جعلته غير قادر على استيعاب ما يجري أمامه عند مرور الأيام ص53 – 54 – 35 – و33، فالذاكرة إذن تتحدد بنتائجها ونتاجها الذي يتحقق عبر الكتابة، لأن مفاهيمها تستند إلى مجازات متوازية وإنها لا يمكن أن تتصورها المجال النص المحقق، لأن الكاتب حسب ديريدا يكتب ضد الكتابة، إنه يكتب كي لا يحيد عن الدائرة المتمركزة حول اللوغوس، إنها المحو والإخفاء لكل خاصية فلسفية إبداعية وهذا ما جعل ديريدا يختلف عن الفلاسفة الذين لا يفكرون إلا في الفلسفة، باعتبارها مسألة شخص وأسلوب،ويعملون على رفضها باسم الأدب الشامل،فديريدا يرفض كل الثنائيات باسم الاختلاف كما في الرواية ص36 – 25 – 44 ، إذن ماذا لو هاجرتنا الكتابة؟ فهذا المقال لنتقد هيدجروهوسرل لأنهما لا يعرفان عالم الرواية التي عملت على إملاء فراغ الوجود، وهذا النقد لا ينطوي على رؤية فلسفية جديدة، بل يتجاوز كل الطروحات الفينومينولوجيا لكي يقربنا إلى عالم ادريس الكريني الطفولي، من هنا نقر أن ليس أي فكر لا يرتبط في جانب من جوانب الذات الإنسانية، ولا يثير التساؤل الفلسفي: من أنا؟ وكيف أفكر وأكتب؟ هل ذاكرتي قادرة على اكتشاف بخصوص مشكلات خارقة منسية؟ وأين يسير مصيري الغامض في هذا الوجود؟ إذن تقدم لنا هذه الرواية بدايات خارج القناع لتفتح الباب لهذه الذات أن تفكر على قدر من التشابه والاختلاف مع الأنا المبدعة ولتحضر كصيرورة نعرفها من جراء ارتقائها من مستوى المجرد إلى مستوى الواقعي كمفهوم مفكر فيه وتنوير لبنائه الإشكالي من جهة طفولة بلا مطر، جاعلا من الطفولة جسرا للعبور نحو إمكانية الوجود الأسري كعلاقة ممكنة معه، وهنا يحيلنا أن وعي الذات عاشت تحت سلطة كتصور جوهري للفكر حيث أراد دائما أن يكتسب مهارة كفكر فردي شفاف بالنسبة لذاته في وعي ذاتي قد يؤمن للفرد هويته وفكرة الجسد الذي تشكل بكيفية مختلفة قد استقبل هذا الجسد العالم الخارجي ليؤسس لنا فلسفة جديدة واقعية يكتسب فيه الطفل شكلا مختلفا تاريخيا متنوعا لفردانيته البريئة، إذن هذا الطفل ادريس يدرك هذا العالم في مجتمعه البسيط والفطري، وهل حريته متناهية في المكان الأصلي؟ أسئلة كثيرة تطاردني تنثال على انثيال الحية الرقطاء والمتراكظة كأحلام البؤساء والدراويش، فالطفل يتحدث عن الجد والأم لكي ينقل لنا واقعا واقعيا ماديا لذاته المغايرة، ولكي يبني لهذه الأنا هذا الاحتضان دون التباعد، وهذا البناء الطفولي يعكس لنا هذه الذات التي تعيش خصوصيتها وتفردها لأنه يرتبط بذوات مجتمعه، هي كل الناس وزائف لأنه يعكس ذوبان الذات في كل الذوات الأخرى بحيث نكون أمام كل واحد وكأننا أمام لا أحد على حد تعبير هيدغر، “الغير وماهية الاختلاف من هيدجر إلى سارتر” فاطمة حلمي – 2016 ص16.
الجسد الطفولي في الرواية:
إن العنوان المواكب لهذا الجنس الروائي يؤكد في صفحاته على الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها الكتابة، باعتبارها عتبة جديرة بالتحليل، فالطفولة تمثل العنصر الأساسي في توجيه القارئ أثناء التلقي للنص، فالطفولة تمثل في جوهرها إعلانا صريحا عن مرحلة من مراحل الإنسان، فهي مرحلة أولية تكون موجهة بمجموعة من الأسئلة التي تكون أرضية خصبة لاستجابات متعددة، وهذا ما يبرر الاهتمام المتزايد من طرف علماء النفس، وعلماء الاجتماع وأيضا الأدباء والشعراء، لذا أمكننا القول بأن ادريس الكريني تجاوز ذاته لكي يعبر عن هذه المقصدية التي يتغياها ككاتب، لذا جاء العنوان تركيبا دلاليا يجمع بين ما هو مرحلي بيولوجي، وما هو عرشي طقسي، فالعنوان يشير إلى الطفولة التي تفصح سلوكاتها المريبة، ومواقفها المتقلبة، لأنها تعمل على إضاءة الفضاء كبعد رمزي يتذكر عبره اللحظات التي أحب فيها جسده، باعتباره مدخل للتفكير في الإبداع الذي يلف هذه الشخصيات الاجتماعية والناجمة عن بروز تدهور القيم الخارجية التي تمثلها فرنسا، وفي مدينة فاس، بحيث لا يمكن أن يتصور فعلا سرديا بدون حدث كما يؤكد ذلك في الرواية ص24 – 26 – 17 – 33، والطفل ادريس يمثل الشخصية الرئيسية التي تشغل حيزا كبيرا في هذه الجنس الاتوبيوغرافي ومن خلال صفحاتها ندرك الصراع بين قوتين رئيسيتين: الطفل الذي يشعر بالمسؤولية ويرى الحياة فارغة من اللعب ومن المعنى، الأمر الذي جعله بطلا في الأسرة الصغيرة، وفي الرواية، حيث يفسح المجال لذاته أمام الرؤية للعالم التي يعبر عنها في ص55 – 36 – و60، فالطفل البطل يراهن على معرفة يريد إيلاعها إلى المتلقي، معرفة تتخلل الوصف والسرد وتجعل هذا الجنس يتميز بمدى الغني الذي يرسم هذا الوعي الحاسم بالنسبة للتاريخ اليومي، ومن جهة ثانية تصبح مسألة إعادة طرح سؤال الرواية، هي سؤال الوجود هي أساس مشروعية الحديث عن ما اعتبرناه اختيارا فئويا، يتم عن سبق إصرار من وراء إرادة واعية اختار أن يؤسس لتاريخ الوعي الطبقي كمسار منطقي ذاتي الرافض لكل منطق سالب، وأغني بهذا القول إننا بصدد منطق ذاتي خاص جدا بما أنه يحيل على تمثل ذاتي كإرادة في الوجود والزمان، فالجسد الطفولي هو عبارة عن نسق نوستالجي ماضوي يحاول ادريس أن يرى الحياة غير المجربة لا تستحق أن تعاش، بل أن معرفة الطفل كرجل الدار هو الهدف الأساسي حسب رؤية الأب المهاجر، من هنا تقربنا الرواية من هذه المرتكزات النظرية لمعرفة هذه الذات، وذلك عن طريق طرح مسائل ومشكلات ذات صلة بقبليات الحكم “اعرف نفسك”، وتتوقف معرفة ذات (الطفل) التي تستدعي التأنق في اللفظ وتدبيج العبارة، وتكون أكثر إفصاحا كما يرى الجاحظ في كتابه البيان والتبيين تر عبد السلام هارون ج1 – 78، فالطفل ادريس لا يفصح عن حاجاته (ص26 – 27 – 30)، بل ينتظر الموافقة من الجد لكي تستقيم رجولته، هكذا بدأ الطفل يتذكر الماضي قصد استنطاقه والتعلم منها، فإنه يشير إلى شيء واحد بعينه، إشارة تبقى دائما هي، وفضلا عن هذا الوصف فالطفل ينتقل من هنا وهناك وذلك بمنأى عن ضغط الفكر المركب، وهذا التشخيص المتمحور حول كيفية بناء هذا الجس وما يحمله من مفاهيم، ثابتة تبدع تراكمات حسية تسجل التلامسات الأولى للكائن الإنساني مع الحياة “من النسق إلى الذات” عمر مهيبل ط 2007 ص188 – 189، فالطفل في استخدامه للكتابة جعلته يتموضع في الوجود من خلال شبكة الذاكرة والمكان، والخيال الكلام،والأنا، وذلك بصورة شبه منظمة، لأن معرفة الطفل مجزأة كليا من قبل هذه الأنا، حيث يتم اشتهاء ينهى المواضيع من المحيط البسيط دون أن تكون مشيئة حسب جاك لاكان، إنها انفصال الأنا عن عالمها الخارجي كصورة أوديبية، تنقلنا من يقيننا لكي نصبح مسالمين مع الطفل،ونتماهي مع شخصياته المنفعلة على المستوى النفسي والعاطفي والجسدي كما يرى أحمد الشراك في كتابه الرواية والسوسيولوجيا ص74،فادريسالكريني سبر سؤال شعله على امتداد مساره الروائي: ما هي الرواية؟ وفيما ضرورية؟ في هذه الرحلة يعرض لنا تصوره الشخصي وتأملاته التي تظل على مدار النص، مرتبطا بإحالته الدائمة إلى الأسرة وإلى مجتمعه الصغير الذي يشكل أسس رؤيته الشخصية لتاريخ الرواية كما يرى ميلان كونديرا في كتابه (فن الرواية) (الغلاف الخارجي)، وهو ما أثر سلبا على المنطقة، وهذا ما جعل ادريس يبدع لنا هذا العمل من خلال إشكالية القراءة البصرية باعتبارها خطة منهجية ومعرفية، وليس فعلا اعتباطيا من هنا تبدو علاقة العنوان بالنص علاقة وثيقة ترسخت عبر تقدم الزمن وظل الوصف شاهدا حيا على تطور هذا المجتمع الصغير المتلاحق عبر الاسترجاع الماضوي، حيث صاحبه الطفل في مراحل تطوره وقوته، وظل للتذكر والذاكرة الأثر الفاعل في توجيه الخط الإبداعي لكي يتخذ نموذجا أدبيا الذي ينبغي الاقتداء به، وخلاصة القول أن ذات الطفل (ادريس) لا تظهر بحصر المعنى العام إلا كنتيجة سردية بما أنها لا تتدخل حقا إلا مع هذا المفصل المكتسب الذي يحدثه البعد الرمزي، إذن فالمؤلف ادريس الكريني هو عبارة عن رسالة أدبية إلى القارئ وبهذه الصفة يمثل شخصا ثابتا في القارة الإبداعية، حيث يستحضر لنا التاريخ، والرمز والمكان والزمان، والشخصيات والأشياء باعتبارها تمتلك شفرة جمالية وايديولوجية، إنه ينتج صورة أدبية مسقطة عن ذاته أي أناه الثانية أو أناه الروائية الثانية أو مؤلفا ضمنيا أو في صورة قارئ ضمني، أو مجرد كما نرى في منشورات اتحاد كتاب المغرب – طرائق تحليل السرد الأدبي ط1 – 1992 ص88، فالرواية تشير إلى الأنماط التعبيرية الأخرى لكي تنسج من المسكوت عنه رسالة وحركة متآزرة ولتكون مرجعية ممكنة عن طريق القاعدة التواصلية، لأن ادريس وظف المضر كسبب في عدم النضج الأرضي، وهذا النفي هل هو غضب الآلهة كما يرى اليونان، فالنفي على عدم التوازن بين السماء والأرض، الشيء الذي يؤدي إلى الجفاف والهجرة والأمراض والقحط، دون أي تفسير أسطوري أو عقائدي، لذا فحضور المطر هو حضور رمزي لم يتوج بالحب مما أدى إلى تحول المنطقة إلى أرض جرداء، واتخذ المطر مفهوم اللاشعور حسب هانريبيرحسن فهو الماضي الذي يخزن لنا المعلومات، ويتواجد خلف المشهد المضيء الذي هو الوعي، فاللاشعور (المطر) حسب فرويد يتميز بالدينامية والطاقة التي تؤثر فينا دون أن نكون واعين، من هنا ينبغي أن نميز بين اللاشعور الفرويدي واللاشعور المعرفي، فهذا الأخير مرتبط أشد الارتباط بالعقل والذهن وبالعاطفة، فهو يشكل رؤية تجسيدية لكل السيرورات الذهنية والميكانيزمات العصبية الكامنة وراءها، والأدب لم يظهر إلا في كتابه الذي حول الأجناس الأدبية التي كانت قارة منفصلة حيث عمل على نضجها لتكون وحدة إبداعية، وكتابة رؤيوية كما يرى جاك ديريدا، لأن الطفل الرجل لا ينحصر في الشأن الاتصالي والتلقي فحسب، بل يتعدى ذلك ليصل إلى حقول الثقافة الفطرية والتجارية، والاجتماع، فهي باختصار منعطف اجتماعي أحدث تحولات كبرى ولا زال على صعيد الحياة المختلفة، وبطبيعة الظواهر الاجتماعية الكبرى، فإن مسيرة الرواية لا تسير في اتجاه واحد، فهي ليست تطورا إنسانيا محضا، كما أنها ليست صورة نكوصية، بل هي حركة في اتجاهات متعددة ومتنوعة، لذا نجد تناقضا بين مظاهر هذه الحركة الاجتماعية ومظاهرها الاقتصادية الغير المقننة، لذلك فإن مهمة الروائي ليست الولوج في مضاربات ايديولوجية حول الموقف من المدينة (فاس – باريس)، وإنما اجتراح فرادته الذاتية والعمل على توفير كل أسباب التحلف في مجاله وفضائه، حتى تتهيأ الظروف الموضوعية لكي يكون له ولمجتمعه موقع متقدم في هذا التقسيم الجهوي المليء بالإرادات المتناقضة، لأن بناء فوقنا القبلية والحضارية هو سبيلنا للتعامل الإيجابي مع التقدم، فالوجود القبلي هو القيمة الأولى لدى الطفل، ولكن أيكون ذلك موقفا على المستوى النظري والقبلي تحديدا، وهو ما تهدف إليه الرواية، ويصبح الأمر أكثر وصفا يقينيا فعليا من جهة، كما لا يسمح من جهة ثانية باتخاذ أي موقف طفولي إذا كان موقفا مقدرا ومعمما على شكل اللاواعي، وهذا ما يتنافى مع وجودية الطفل في نقطة بدايتها، لأن اليقين هو الأساس الضروري والتأثير في الأوساط الثقافية الشعبية، وهذا المعطى الذاتي ينسحب على المعطى الموضوعي ليبقى اختبارا باللحظة والمعرفة الناتجة عنها، فالطفل ادريس يدفن الماضي إلى غير رجعة إنه النضوج الذي يقود إلى الشك والقلق بدل أن يكون علاجا ويرى كولدولسن في كتابه اللامنتمي “أن الفرق بين عالم البالغين وعالم الأطفال هو أحد الفروق الرئيسية بين عالم القرن العشرين وعالم القرن التاسع عشر” ص9.
إذن لم تعد الحقيقة بكل بساطة مطابقة للفكر السائد، لأن المسألة تكون أكثر تعبيدا بما لا يقاس، والجواب يعتمد جزئيا على القواعد الفطرية والمبادئ المكتسبة على المستوى المحدود، حيث لا يصح بنفس القدر على المستويات اللامتناهية ومهما يكن من أمر فإن استراتيجية النص يتأسس على جملة من الألاعيب والإجراءات يمارس الفعل من خلالها آلياته التذكارية والنسخ الماضوي دون تفاوت في الشدة والقوة، وهنا مكمن السر في هذا النص أعني أنه يضفى بكل مدلولاته ولذا تذهب الدكتورة بن المداني ليلة بالقول بأن قوة النص تكمن في إفصاحه وبيانه وليس في حجبه، من هنا ينبغي التعامل مع الرواية قصد الكشف عن المسكوت عنه لجعل التنوع في القراءة.