قصص و شخصيات

الثامن والعشرون من رمضان: بناء إحدى أعظم المعالم المعمارية بالمغرب .. المدرسة البوعنانية بفاس

أخذت المدرسة البوعنانية اسمها من اسم مؤسسها أبي عنان المريني، وتعرف في بعض الكتابات بالمتوكلية تبعا للقب نفس السلطان “المتوكل على الله”، وهي أول مدرسة شيدها أبو عنان، وكانت الغاية منها مؤازرة جامع القرويين وربما منافسته، حيث إن المدرسة تحتل موقعا وسطا بين فاس الجديد مقر السلطان والمدينة القديمة حيث جامع القرويين، ويظهر أن اختيار هذا الموقع لم يكن عفويا خصوصا بعد أن أقر أبو عنان العلم الأبيض والفنار فوق الصومعات للإعلان عن حلول وقت الصلاة، وكان لا بد من جامع تسمح صومعته برؤية العلم أو الفنار من فاس الجديد.

وتتفق جل المصادر على أن الشروع في بناء المدرسة البوعنانية كان يوم 28 رمضان عام 751 هـ / 29 نونبر 1350 م، وأشرف على البناء، الناظر في الحبس بالحضرة أبو الحسن ابن أحمد بن الأشقر،  ودام البناء خمس سنوات حيث انتهى العمال من الأشغال آخر شعبان سنة 756 هـ/1355 م، وقد ذكر الحسن الوزان (وصف افريقيا ، 1 : 179)، أن  ناظرا يدعى ابن الحاج ضبط مصاريف تشييد هذه المعلمة فوجد أن مجموعها بلغ أربعمائة وثمانين ألف مثقال، وأنه عند الانتهاء من بناء المدرسة أطلع أبو عنان على سجل تكاليف هذه المدرسة، ولما تصفح بضع صفحات وجد ما مجموعه أربعون ألف مثقال، فأنشد قائلا:

 لا بَأْسَ بالغَالِي إذا قِيلَ حَسَنْ               ليس لِمَا قَرَّتْ به العينُ ثَمَنْ

وقد أوقف عليها أبو عنان عددا من الحمامات والأرحية والأفران والحوانيت وغيرها، وكلها متصلة بالمدرسة أو قريبة منها، ويستعمل ربعها لإصلاح المدرسة وتوفير مرتبات المدرسين والطلبة المقيمين بها .

ومن الناحية الأثرية تعد المدرسة البوعنانية من أكبر وأشهر المعالم بحاضرة فاس، وهي آخر المنشآت التعليمية المرينية، والوحيدة بحاضرة فاس التي تحمل اسم منشئها، وبعد أن شهدت تدريس أفواج الطلبة لعدة قرون، توقف العمل بها قبل أن تتحول إلى مسجد، وتم ترميمها في السنوات الأخيرة وفتحت أمام الزوار كمعلم سياحي بالعاصمة العلمية للمملكة.

لكن مميزاتها الأساسية تكمن في عناصر أخرى، منها أنها كانت تجمع بين وظيفة التدريس ووظيفة المسجد الجامع، إذ اشتملت منذ نشأتها على منبر للخطبة يعتبر آية في الجمال، وعنواناً للإبداع في القرن الثامن الهجري (14 م)، ولا يزال هذا المنبر إلى الآن تحفة من التحف الفنية البالغة الجمال.

وتأكيدا لدور الجامع، شيدت بالمدرسة صومعة شاهقة روعي في علوها تمكن المؤذن من رؤية كل من صومعة جامع القرويين وصومعة جامع الأندلس وبذلك أصبحت البوعنانية ثالث الجوامع الأساسية بالمدينة، تحمل نداء الصلاة وإشارات الصيام والإفطار في رمضان إلى سكان الأحياء العليا من فاس .

ومن الناحية المعمارية تعتبر المدرسة البوعنانية مجمعا معماريا يضم مجموعة أولى من البنايات متداخلة في ما بينها ومكملة بعضها البعض، فتتكون المدرسة – الجامع  أساسا من قاعتين للتدريس، وقاعة كبرى للصلاة وغرف لإيواء الطلبة، وتوجد مقصورة الإمام وبابها إلى يسار المحراب، بينما يتواجد جامع الجنائز وراء جدار القبلة، يُنزل إليه من بيت الصلاة بدرج من عدة درجات، بالإضافة إلى بيت وضوء داخلي يقع في الزاوية الشمالية من المدرسة.

ويقع كُتَّاب صغير لتعليم القرآن الكريم للأطفال في جهة الجنوب الغربي، وبيت وضوء خارجي، يعتبر بدوره تحفة معمارية بارزة، يقع خارج البناية الأم مواجها لها، يفصل بينهما زقاق الطالعة الكبرى، وبمحاذاته بناية الساعة الجدارية العظيمة المعروفة “بالمكَانا”.

أما المجموعة الثانية فتتكون من العقارات المختلفة التي أنشأها أبو عنان وجعلها حبسا على المدرسة أو التي كانت موجودة وحبسها عليها، وقد ذكرت كلها في رخامة التحبيس ومما جاء في هذه الأخيرة: “حبس أيده الله على هذه المدرسة إرفاقا لطلبة العلم وإرفادا، وإعانة لهم على طلبه وإسعادا، جميع ما ينقسم من الربع وذلك الحمام المعروف بحمام الشطارة والدويرة المتصلة من حقوقه بأعلى حلق النعام، قبلي المدرسة المباركة، والرحا المتصلة بالمدرسة من جهة الشرق، والرحا الثانية المعروفة برحا الحطا، بين التي بها معدة الماء المجلوب منها الماء إلى المدرسة ودار الوضوء بها، والفرن الذي بالزنقة الفاصلة بينه وبين المدرسة، والروآن الاثنان أحدهما بالزنقة جنب الفرن وتتصل بالحوانيت الجدد المحبسة على المدرسة، والآخر بزنقة ابن نوار وتتصل بدار الوضوء المذكورة، وأربع وسبعون حانوتا كلها بالقرب من المدرسة بحقوق ذلك كله ومنافعه أجمعها لتصرف فوائده في إصلاح المدرسة ومرتبات المقرئين والطلبة القومين (يعني القيمين) بها تحبيسا تاما ثابت الحكم لا تبديل لرسمه إن شاء الله”.

وبالنظر إلى التصميم العام للمدرسة نجد بناياتها الأساسية تتوزع حول صحن كبير مربع الشكل طول كل ضلع منه 18 مترا، أرضيته مكسوة بقطع من المرمر الأبيض تتوسطه بركة ماء مربعة الشكل (5 م x 5 م) ومغطاة بالمرمر الأبيض .

وتنتصب في جانبي الصحن يمينا وشمالا قاعتان كبيرتان متقابلتان مربعتا الشكل (25 x 25 م) يفتح على كل واحدة منهما باب عظيم مزخرف في قسمه الأعلى بنقوش جصية وفي قسمه الأسفل بقطع الزليج المختلفة الألوان.

أما بيت الصلاة فشيد شمال الصحن، تفصل بينه وبين هذا الأخير قناة مكشوفة يناهز عرضها المترين وتجري بها دوما مياه شعبة من “واد فاس”، وقد نصب على طول القناة من جهة الصحن درج من علو يناهز الثلاثين سنتمترا يجلس عليه من يريد التوضؤ من جانبي القناة، ووضعت قطعتان مرمريتان عريضتان تمكن المصلين من المرور من الصحن إلى داخل بيت الصلاة .

وبيت الصلاة هذا مستطيل الشكل يتكون من بلاطين أفقيين، أي موازيين لجدار القبلة، تفصل بينهما مجموعة أقواس غير متساوية المقاييس حيث إن القوسين الجانبيين أقل اتساعا من الأقواس الوسطى، ومما يسترعي الانتباه كون السواري الست التي تحمل الأقواس الفاصلة بين البلاطين كلها من المرمر تعلوها تيجان من نفس المادة، مزخرفة بزخارف محكمة الصنع وبكتابات نقشت بخط أندلسي بديع، فالقوسان الأوسطان يحملان ما نصه: “أمر ببناء هذه المدرسة المباركة مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحسن ابن الخلفاء الراشدين أيده الله”. أما الأقواس الأربعة الباقية فتحمل العبارة التالية: “النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا أبي عنان أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين”.

ويتوسط جدار القبلة محراب زينت جدرانه بنقوش جصية تجمع ما بين عناصر نباتية الشكل، وأخرى هندسية وكتابات قرآنية نقش أغلبها بخط أندلسي جميل، ونقشت إحداها بخط كوفي مزخرف بوريقات نباتية، هذه الأخيرة تجري على الإطار المحيط بزخارف قوس المحراب، ومجموع كتابات المحراب سور قرآنية.

ومما يميز المدرسة البوعنانية عن سائر المدارس المرينية، بل ومجموع المدارس المغربية المعروفة، وجود قاعتين للتدريس متقابلتين ومتساويتي المساحة (5 أمتار x 5 أمتار في كل واحدة)، إحداهما على يمين الواقف بصحن المدرسة، والثانية على شماله .

وعلى غرار كل المدارس العتيقة، تحتوي البوعنانية على مجموعة كبيرة من الغرف لسكنى طلبة العلم بها، شيدت على مستويين: مستوى أرضي، وآخر بالطابق العلوي، وقد وزعت هذه الأخيرة بكيفية محكمة بحيث لا تعلو المرافق الأساسية للمدرسة كبيت الصلاة، وغرفتي التدريس، والمدخلين .

ومن مميزات البوعنانية كذلك الساعة الحائطية العظيمة الواقعة قبالة المدخل الرئيسي للمدرسة، وبمحاذاة بيت وضوئها الأكبر الواقع خارجها بمحج الطالعة الكبرى، ولقد كتب الكثير عن هذه المعلمة الفنية وعن تقنية عملها، كان آخرها ما جاء به العالم دونالد . ر. هيل  . Donald R. Hill، ومع ذلك لا تزال هذه الساعة من قبيل ما يثير الفضول بل وحتى الاستغراب.

وإذ لا يتسع المجال لإعطاء تفاصيل عما تم الكشف عنه بخصوص ميكانيزمات هذا الساعة العجيبة، فتكفي الإشارة إلى أن هذه الأخيرة كانت تعتمد على عنصر الماء الذي يتم توزيعه بكيفية ميكانيكية دقيقة عبر أنابيب وصفها پروسبیر ريکار P. Ricard بأنها كانت مصنوعة من خشيبات سمكها سنتمتر واحد، يُعتقد أنها غشاء خشبي لأنابيب رصاصية، كان الماء يمر منها لينزل بقطرات فوق الأجراس البرونزية التي لا يزال بعضها قائما شاهدا على محكم الصنع وعظمة الابداع، وقد تم تسجيل المدرسة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي في عام 1981، كجزء من مدينة فاس التاريخية.

المصدر:

معلمة المغرب: منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا 1410/1989، ص 1807-1811.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button