اكتشاف أثري مغربي يعيد كتابة تاريخ شمال إفريقيا وحوض المتوسط

كشفت حفريات أثرية حديثة في موقع “قشقوش” الأثري بمنطقة واد لاو، عن أدلة قاطعة تتحدى الفكرة السائدة طويلاً بأن منطقة المغرب الكبير كانت أرضاً شبه خالية ومعزولة قبل وصول الفينيقيين حوالي 800 عام قبل الميلاد.
الدراسة التي قادها باحث الدكتوراه المغربي حمزة بن عطية من جامعة برشلونة بالتعاون مع المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالمغرب، ونُشرت نتائجها في مجلة “Antiquity” المرموقة في فبراير 2025، تظهر أن المنطقة كانت مأهولة بشكل مستمر ومتصل بالعالم المتوسطي قبل ذلك بقرون عديدة، مما يفتح فصلا جديدا في فهمنا لتاريخ شمال إفريقيا القديم.
وبحسب تقرير نشره موقع نوموراما الفرنسي، فقد كانت الدراسات التاريخية تركز سابقا في تناولها لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط في عصور ما قبل التاريخ وما بعدها على الحضارات التي نشأت في أوروبا والشرق الأدنى، مهمشة بذلك الساحل الشمالي الإفريقي الذي صور غالباً على أنه منطقة هامشية تنتظر “الاستنارة” من قبل القادمين من الشرق، كالفينيقيين، إلا أن موقع “قشقوش”، يقدم رواية مغايرة تماما.
استيطان بشري منذ أكثر من 4200 سنة
وكشفت أعمال التنقيب الدقيقة التي أجراها فريق بن عطية عن ثلاث مراحل رئيسية للاستيطان البشري في الموقع، تمتد على مدى أكثر من 1500 عام، وتمتد المرحلة الأولى على حوالي مائتي سنة (2200 – 2000 ق.م)، وعلى الرغم من قلة الآثار المكتشفة من هذه الفترة، والتي قد تعود لعوامل التعرية أو لطبيعة الاستيطان المؤقت حينها، إلا أنها تشير إلى وجود بشري مبكر جدا في الموقع، قبل وصول الفينيقيين بأكثر من ألف عام.
وتغطي المرحلة الثانية حوالي 400 سنة (1300 – 900 ق.م)، وشهدت هذه الفترة تحولا جذريا نحو الاستيطان الدائم والمستقر، حيث بنى السكان مجتمعا زراعيا يعتمد على زراعة القمح والشعير والبقوليات، بالإضافة إلى تربية الماشية كالأبقار والأغنام والماعز والخنازير، وتميزت مساكنهم بكونها دائرية الشكل ومبنية من الطين، مما يعكس تقاليد بناء محلية أصيلة ومجتمعا منظما قادرا على تأمين مقومات الحياة بشكل مستدام.
أما المرحلة الثالثة والتي تمتد لـ 200 عام (حوالي 800 – 600 ق.م)، والمعروفة بالعصر الموريتاني المحلي، فتتزامن مع بداية التوسع الفينيقي في غرب المتوسط، ويخلص فريق البحث إلى أن وصول الفينيقيين لم يكن بمثابة بداية للتاريخ في المنطقة، بل كان تفاعلا ثقافيا واقتصاديا مع مجتمع قائم ومزدهر، حيث تأثر سكان “قشقوش” تدريجيا بجيرانهم الجدد، فظهرت تقنيات بناء جديدة كالمنازل المربعة المبنية بالحجارة جنبا إلى جنب مع البيوت الدائرية التقليدية، كما أدخلوا محاصيل جديدة مثل العنب والزيتون، وبدأوا باستخدام أدوات وأواني جديدة مثل الجرار الفخارية المصنوعة على الدولاب والأدوات الحديدية، مما يشير إلى اندماج تدريجي وتبادل ثقافي نشط، وليس استبدالا حضاريا.

دور كبير للمغارب في تشكيل تاريخ المنطقة
يؤكد حمزة بن عطية وفريقه أن موقع “قشقوش” يقدم أحد أوضح الأمثلة الموثقة للاستيطان البشري طويل الأمد في هذه المنطقة الحيوية، ويمنح لمحة نادرة عن تطور المجتمعات المحلية على مدى أكثر من ألف عام، ويضيف بن عطية: “لفترة طويلة، اعتبرت هذه المنطقة فارغة أو ذات أهمية أقل، ولكن الأدلة من قشقوش تروي قصة مجتمعات محلية ديناميكية كانت أبعد ما تكون عن العزلة”.
وتشير طبيعة الآثار المكتشفة، إلى أن منطقة المغرب الكبير لم تكن مجرد متلق سلبي للحضارات القادمة من الشرق، بل كانت فاعلا أساسيا وشريكا نشطا ضمن الشبكات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المعقدة التي ربطت حوض البحر الأبيض المتوسط، ويرجح الباحثون أن البنية الاجتماعية في “قشقوش” كانت قائمة على الأسرة، وأن الهجر النهائي للموقع حوالي 600 سنة قبل الميلاد تم بشكل سلمي، ربما بسبب تحولات اقتصادية واجتماعية دفعت السكان للانتقال إلى مستوطنات أخرى مجاورة، وليس نتيجة صراعات أو حروب كما هو الشأن في التاريخ القديم للكثير من المناطق.
ويعد اكتشاف “قشقوش” خطوة هامة نحو تصحيح الرؤية التاريخية المتحيزة التي طالما قللت من شأن الدور الحضاري لشمال إفريقيا في العصور القديمة، بل إنه يقدم دليلا ملموسا على وجود مجتمعات محلية قوية ومنظمة ومترابطة سبقت وصول الفينيقيين بقرون، مما يدعونا إلى إعادة تقييم فهمنا لديناميكيات التفاعل الحضاري في البحر الأبيض المتوسط القديم والاعتراف بالمغرب الكبير كمشارك أصيل وفاعل في تشكيل تاريخ المنطقة.