وَدَاعًا أَيُّهَا الْفَرَح

بقلم: د.مهدي عامري
الغَرِيبُ هُوَ مَنْ لَا يَنْتَمِي إِلَى أَيِّ مَكَان، لَا إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَلَا إِلَى ٱلْأَرْضِ، وَلَا حَتَّى إِلَى نَفْسِه – ألبير كامو، يقول الراوي:”صيف 2009.
حرارة خانقة، بلد يتصبب عرقًا من التعاسة والبؤس، وشمسٌ لاذعة في هيئة محقّق فاسد يُلهب جلودنا بحميم نيرانه.كنتُ على ظهر باخرة “بلادي”.

اسمٌ مضلّل. أليس كذلك؟.
فبلادي تلفظ أبناءها كما يتقيأ السكران عشاءً فاسدًا بعد تجرع لتر من النبيذ الرخيص.كانت الباخرة مثل ديناصور متقاعس يزحف ببطء على صفحة البحر.
عشرة طوابق من الحديد والصدأ، تشقّ الأمواج بين طنجة وسيت، ذهابًا وإيابًا. كانت تائهة، ضائعة، مثلي أنا، بلا أدنى انتماء للوطن.
كنت أعمل على ظهر الباخرة مروجًا تجاريًا لشركة ويسترن يونيون لتحويل الأموال.
عملٌ موسمي دام ثلاثة أسابيع. بضعة يوروهات، لقيمات، لا قيمة لها…عبث في عبث.
لم يكن هذا العمل وظيفة بالمعنى الحقيقي، بل كان مؤقتًا، وكان – بشكلٍ ما – تِرياقًا لحظيًا لشعوري الحادّ باللاجدوى.هذا عن العمل…أما البحر، فليس شاعرًا، ولا حاملًا لأيّ رمز. إنه وحشٌ قديم، أعمى، لا ذاكرة له.
ورغم ذلك، كنا نتأمله كما يحدق الجوعى بغزة في شاحنات الأغذية التي لن تتخطى المعبر.
وجوه تمرّ، وأخرى تغيب. وفي كل رحلة بين شمال المغرب وجنوب فرنسا، حشود جديدة، وأجسادٌ متعبة، وأطفالٌ يبكون كأن أحمال العالم فوق أكتافهم.
وبين الجميع، كان سمير.
فنان وعاشق للموسيقى حتى النخاع. رجل بعينين مليئتين بالشجن.
يعزف الكمان كل مساء في الطابق العاشر، تحت قبة السماء المزدانة بالنجوم.
صوت كمانه لم يكن عزفًا، بل كان أنينًا صامتًا. قال لي ذات مساء: “أنا من اتعس خلق الله. أعيش كرجل يتشاجر كل صباح مع زوجته.”ضحك بعنف، ثم سحب نفسًا عميقًا من نرجيلته.
كنا نحادث البحر كثيرًا، لكنه كأي أصمٍّ محترف لا يستمع، ولا يجيب.حكى لي سمير عن خمس سنوات من الأعمال الموسمية التي جرّبها بالمغرب، عن استغلال المشغّلين، عن أجورٍ بخسة لا تساوي شيئًا، وعن الكرامة حين تُداس بالأقدام.
قال لي والألم ينخر روحه: “تمنيتُ يومًا أن أُعامل كإنسان. لم أطلب مجدًا ولا ثروة.
كنتُ تواقًا فقط للنزر اليسير من العدل.
كنتُ أرجو فقط شيئًا واحدًا: أن أُعامل كإنسان.”بالفعل… كان سمير يحلم ببلدٍ يحكمه القانون.
لم يكن ذا أحلام وردية. كان عازف الكمان ينشد الحد الأدنى من الإنصاف.
لكن حتى هذا، على ما يبدو، كان شيئًا عسير المنال.كنا بين ذهاب وإياب، بين طنجة وسيت، على ظهر باخرة “بلادي”، لمدة ثلاثة أسابيع.
وهي فترة عملنا هناك. هو كعازف، وأنا كموزع إعلانات. كان البحر شديد التقلب، وأحيانًا كثير الهيجان.
وكان الربّان يعدّل السرعة حسب حالة البحر.
وكنا تمامًا مثل الباخرة… لا نعرف متى نُقلع من جديد من طنجة، ومتى نُقفل عائدين من سيت.
وقال لي سمير: “أنا وهذه السفينة سواء. لا نحن هنا، ولا هناك.
حتى البحر لا يذكر أسماءنا.”وسألته: “عملُنا هنا موسمي… لكن إن أُتيحت لك الفرصة، لِمَ لا ترحل… ودون رجعة؟”فأجاب: “إلى أين؟”وانقضى صيف 2009، وذاب في يمّ النسيان: ببطء، بتعاسة، وبمرارةٍ في القلب.
ورجعتُ إلى باريس وسجّلت في السنة الأخيرة من دراستي هناك. ومرت الأيام، ثقيلة كسلاسل العبيد… لا جديد، لا مفاجآت.
حتى جاءني ذات يوم بريد إلكتروني. سمير.
رسالة قصيرة ورقم هاتف، بلا مقدمات.
اتصلت بالعازف الحزين. والتقينا في الدار البيضاء.وبدا لي سمير كما تركته، لكن في عينيه كان يخيم ظلٌ أعمق من الليل البهيم.قال لي: “هل تدري ماذا فعلت بعد رحيلك؟”قلت مترقبًا ممازحًا: “ماذا فعلت يا بيتهوفن القرن الحادي والعشرين؟”صمت سمير طويلًا.
وجعلني فريسة للترقّب.وأخيرًا انطلق كالسهم: “لقد قفزتُ من الباخرة، وسبحتُ مستميتًا نحو سيت.”بحلقتُ فيه مذهولًا، مصدومًا.
ظننت أنني أخطأت الفهم. لكنه واصل:”نعم. في جنح الليل.
قفزت إلى البحر. ارتطامٌ عنيف.
ذراعي انكسرت.
البحر بارد. الموج يعصف بي من كل اتجاه.
شعرت أنني أغرق. لكني كنت أُقاتل، بلا وعي.”تابع بصوت من يسرد حلمًا مستحيل التصديق: “وصلتُ إلى الشاطئ. ألقت الشرطة القبض عليّ. لكنهم عاملوني بلطف. نقلوني إلى المستشفى. مكثت أيامًا. ثم خرجت. لا بيت، لا أهل، لا طلاقة في اللغة.
فقط ذراعٌ مكسورة، وحلمٌ بالهجرة قد أُجهض، وكثير من البؤس.”ومرّت الشهور، الواحد تلو الآخر، وبحث سمير عن العمل، ليلًا ونهارًا.
سبعة شهور، كلها جوعٌ ومذلّة. ثم، أخيرًا، اشتغل في شركة حواسيب.يا إلهي! بدوام كامل. وبراتب معقول.
وأخيرًا!وقال لي سمير وهو يضحك على نفسه: “وطئتُ تراب فرنسا من دون تأشيرة. تسللت إليها من البحر الغدّار، من الغرق، من شبح الموت.
فما قيمة ذلك؟ لا شيء!!”ثم سألني وهو يقهقه مجددًا: “ما رأيك في سمير حين يجن؟”لم أجب. نظرت إليه طويلًا.
أردت أن ألقي محاضرة طويلة تحتفي بشجاعته.
حاولت أن أُثمّن هذه المغامرة. لكن لساني انعقد، ولزمت الصمت.وبعد دقيقتين، نظرت إلى السماء وقلت: “البحر إمّا أن يُعلّمنا السباحة، أو يبتلعنا كحوت جائع لم يشبع بعد.
أما أنت يا سمير، فلا هذا ولا ذاك.
أنت نجوت.
ولعلّك تعلّمت سباحةً أخرى.
من نوع مختلف.”
رميتُه بهذه الكلمات.
وكنت في باطني أشعر بحِمل هائل أثقل من الرصاص.
وداعًا أيها الفرح.
مرحبًا أيها الحزن.
الرحلة انتهت.
لا على الشاطئ، بل فينا نحن.
وبعد أقل من عشرة أيام من هذا اللقاء، وصلني الخبر الصاعق.
مات سمير.أزمة قلبية.
وجدوه ممددًا على سريره، والكمان على صدره.
قالوا إن وجهه كان هادئًا.لكني أعلم أنه كان غاضبًا من بلدٍ يُضيّع الموهوبين، ويقذفهم إلى حيتان البحر.
أعلم أنه كان يصرخ داخله.أعلم أنه لم ينسَ.وجلستُ أكتب هذه السطور، وأمامي على الطاولة صورةٌ لنا نحن الاثنين على متن باخرة “بلادي”…
وفي أذني كان صدى كمانك الحزين يا سمير… كان يبكي.تمامًا مثلي…