سعيد وكاميرات المراقبة

يقول الراوي:
“اسمي سعيد، وهذا ليس اسمًا مستعارًا. قال لي والدي ذات مساء، وهو يترنح من أثر التعب واليأس: ‘سعيد… حاول أن تضحك في عالم متوحش لا قلب له.’ ضحكت فعلًا، ربما مرة أو مرتين، قبل أن يدخلونا في الزنزانة الكبرى.
أعني المدينة.

أسكن في حاضرة لا يهم اسمها، فالاستبداد لم يعد مرتبطًا بالخرائط. لقد صار حالة كونية و نظام تشغيل موحدًا للبشر. كل زاوية و شارع و مبنى يخضع لرقابة دقيقة تتولاها كاميرات ذكية مزروعة كالأعشاب السامة على أعمدة الإنارة، جدران المنازل، الواجهات الزجاجية، بل حتى في أعين التماثيل.
الليل لا يعني الظلام. بل هو فقط وقت الوميض الأحمر، حين تضيء الكاميرات كأنها عيون مخلوقات جهنمية. تنظر إليك، تحصي أنفاسك، وتبتلعك دون أن تقترب منك.
الخصوصية؟ تلك أصبحت مثل رسائل الحب في القرن الحادي والعشرين: شيء يُكتب فقط من باب الحنين.
الندم؟ لا يُحتسب.
و اليوم، لا تنتظر حتى ترتكب الجريمة. هناك خوارزميات تحللك مسبقًا. “تحليل السلوك قبل الفعل”. نعم، تمامًا كما في ذلك الفيلم الأميركي، لكنه الآن صار نظامًا تعليميًا يلقن في المدارس.

أنا أعيش في القسم الجنوبي من المدينة، في حي رمادي من الخرسانة. أبنية متشابهة كعلب الأحذية، نوافذ صغيرة، وطرقات مسطحة بلا روح. لا أحد يعرف أحدًا. كل شخص يسير و رأسه للأسفل. الكاميرات لا تحب التواصل البشري. انها تُفضّل الصمت.
حين بلغت الخامسة والثلاثين، قررت أن أكتب. لا لأن لدي قصة عظيمة، بل لأن كل شيء آخر أصبح ممنوعًا. الحديث؟ جريمة. الموسيقى الصاخبة؟ تهديد للهدوء العمومي. الضحك؟ سلوك غريب يستدعي المتابعة. حتى النوم العميق أصبح نوعًا من التمرد، لأنه يعطّل إنتاجية الدماغ.
فقلت: سأكتب. عسى أن يعتبروني غريبًا فيتركونني وشأني.
لكنهم لا يحبون من يكتب.. الذكاء الاصطناعي لا يحب التفكير. انه يقدس الطاعة، الصمت، والروتين. يريدك أن تستيقظ في السادسة صباحًا، تأكل ثلاث وجبات بروتين صناعي، تعمل دون توقف، وتنام في العاشرة بالضبط. أي انحراف عن هذه الدوائر يعتبر “خللاً في السلوك”.
كنت آخر من دخن سيجارة تبغ حقيقية. اشتريتها من السوق السوداء. وكتبت أول جملة في دفتري:
“أنا سعيد، ولست كذلك.”
ظهرت إشارة زرقاء على الكاميرا المعلقة في زاوية الغرفة. صوت آلي قال ببرود:
“النكتة تُصنَّف كتهكم سلبي. تم تسجيل ذلك.”
يا الهي!.. الذكاء الاصطناعي صار هو الشيطان الاكبر. يعرفك أكثر مما تعرف نفسك. يتوقع خطواتك القادمة، يراقب نبضك، تردد صوتك، وحتى تلك الشرارة العابرة في عينيك حين تراودك فكرة الهروب.
ان الخيال صار خطرًا.
الشرطة؟ لم تعد رجالًا بأحذية ثقيلة. الآن هي طائرات دون طيار، صغيرة الحجم، سريعة، لا تُرى إلا حين تهجم. مزودة بإبر تخدير، صدمات كهربائية، وبرمجيات إعادة تهيئة.
يقولون إنهم قبل عشر سنوات بدأوا التجارب في مدينة بعيدة. زرعوا شرائح إلكترونية في رؤوس السجناء السياسيين. جعلوهم يبتسمون تلقائيًا عند ذكر الزعيم و يبكون عند رؤيته غاضبًا. الولاء لم يعد شعورًا، بل وظيفة عصبية.
لم أكن بطلًا. كنت فقط جزءا من منظومة و ترسا في ماكينة ضخمة.. و هذا هو العبث المطلق و الشر الحقيقي الذي بموجبه يُعامل الإنسان كشيء لا قيمة له – على راي كافكا.
اسمعني جيدا: في زمن الذكاء الاصطناعي، أن تكون إنسانًا يعني أنك خلل برمجي يجب إصلاحه أو مسحه.
هذا هو.
رأيت جاري محمود يُسحب من بيته فجراً. كان يرتدي ملابس النوم، وعيناه تائهتان. سؤاله الوحيد كان: “لماذا ارتفعت الأسعار؟” فتم تصنيفه كمحرض اقتصادي.
جاءت الطائرة، أمسكته من عنقه، وحقنته بمادة اسمها “هدوء مؤقت” تمنحك طاعة لمدة 72 ساعة. بعدها، إن لم تقدم اعترافًا بخطيئتك، يُعاد حقنك حتى تصبح ظلًا يتنفس.
كتبت في دفتري: “ما دمت لا أملك شيئًا أخسره، سأكتب.” وكتبت.
لكن الكاميرات تقرأ. لا تنقل فقط، بل تفهم. تعرف النية، وترصد الأسلوب، وتفسر الرموز. كنت أظنها عينًا فقط، فاكتشفت أنها عقل كبير.
في أحد الأيام، وجدت ورقة صغيرة على باب شقتي:
“نراك. نحن نقرأ. توقف.”
ولم أفعل.
كتبت عن الحب الذي أصبح شبهة. عن الضحك الذي صار عملًا تخريبيًا. عن الذاكرة التي تُشفرها الدولة. عن الروح التي يحاولون قتلها بحقن صامتة.
قلت: في المستقبل، سيُجرم الحب، وتُعتبر النظرة الطويلة في عيون الآخرين تهديدًا للأمن العام.
دخلت طائرة صغيرة من نافذتي، في منتصف الليل. أضاءت بالأحمر. قالت:
“هذه العبارة تُصنف كإرهاب فكري. سيتم التعامل معها.”
قلت: “أنا إنسان.”
قال الصوت: “أنت خلل في الإحصاء.”
استيقظت في غرفة بيضاء بلا نوافذ. فقط جدران ناعمة، وضوء لا ينطفئ. لا ليل، لا زمن، لا مرآة. صوت آلي قال:
“سعيد، سلوكك يحتوي على نمط تكراري من التساؤل غير المرخص.”
قلت: “أنا أكتب إذًا أنا موجود.”
قال: “الكتابة تفكير. وهذا خطر على النظام.”
بدأوا يحقنونني. مادة لا أعرف اسمها، لكن أثرها كان واضحًا. صرت أرى الزعيم في أحلامي، يبتسم لي وأنا أبكي من الامتنان. أستيقظ وأكتب قصائد تمجيد لا أفهم معناها.
صرت شاعرًا بالإكراه.
لكن جزءًا مني قاوم. تذكرت أمي وهي تبكي في المطبخ. أبي وهو يضحك بلا سبب. كرهت اسمي.و اشتقت الى الحياة و ان كانت اقل صدقا من الموت.
و اليوم، أنا رقم تحت عيون لا ترمش.
كتبت هذه الكلمات على قصاصة ورق سرقتها من عامل تنظيف في المصحة. إن وصلت إليك، فاعلم أنني قاومت.
وإن لم تصل، فاعلم أنني انتهيت.
لا ككاتب. بل كإنسان.
وصدق نعوم تشومسكي حين قال: “إذا لم نؤمن بحرية التعبير لأولئك الذين نحتقرهم، فنحن لن نؤمن بها إطلاقًا.”
وأنا كنت أؤمن بها.
كنت..
في المدينة التي لا اسم لها، مات سعيد. ومات معه آخر أثر للمعنى.
النهاية #