عين العقلغير مصنف

وجع البيوت…!

بقلم: الاستاذ مولاي الحسن بنسيدي علي

كم نظنّ أنّ الغرب، بما حقّقه من تطورٍ علمي، وتراكمٍ حقوقي، وعدالة اجتماعية، قد بلغ ذروة ما طمح إليه الإنسان في مسيرته عبر العصور. فنُعجب، بل نغبطه، ونشدّ الرحال إليه بأجسادنا وأحلامنا، من شبابٍ وشيب، آملين أن نبلغ في أرضه الموعودة كفاف العيش، وكرامة الإنسان، وماء الوجه المصان.

وما إن نبلغ تلك العوالم “المتحضّرة”، حتى نصطدم بوجهٍ آخر للحضارة؛ وجهٍ لا تلتقطه عدسات الإعلام، ولا تُدرّسه الجامعات، لكنه حاضر في تفاصيل الحياة اليومية، في صمت الأرواح، وفي وجع البيوت.


في أحد أيام ربيعيّات باريس، حيث الحدائق تزدهي بنسمات نهر السين وظلال الزمن العابر من السوربون إلى السان ميشيل، التقيتُ رجلاً عجوزًا في حديقة “لوكسمبورغ”. رجلٌ فرنسيّ، نحيل الجسد، لكنه عظيم الروح. قانونيّ متقاعد، أديب من زمن فولتير وروسو، يستحضر أسماء فيكتور هوغو، وبودلير، وديكارت، كما لو كانوا جيرانه في الحيّ السادس. كان يحمل غليونه كأنّه صولجان حكيم، يبتسم ابتسامة هادئة حين يحدّثني عن الثورة الفرنسية، وعن مؤتمر فيينا، عن تفكك أوروبا في الحربين، وعن ولادتها من رمادها تحت راية الاتحاد الأوروبي.

كنا نجلس صباح كل يوم، كأنّنا نمارس طقسًا معرفيًا، نتبادل الحديث بين الشرق والغرب، بين تراث ابن خلدون وأفكار هيغل، بين نغمة الناي في أزقة دمشق، ووقع الأوبرا في فيينا.

لكن، في أحد الصباحات، غاب صديقي. ظللتُ على مقعدي، أرقب الغيوم وهي تمرّ، أستنطق الريح علّها تخبرني بشيء. في الغد، سألتُ حارس الحديقة العجوز، فأطرق رأسه وأجابني بأسى: “أولاده وضعوه في دار للمسنين، في أقصى شمال فرنسا. قالوا إنهم لم يعودوا قادرين على رعايته”.
كتمتُ الغصة في صدري، وشعرتُ بدوارٍ غريب. ألقيتُ نظرة طويلة على المدينة التي يتغنّى بها الجميع، ولعنتُ حضارةً تُهين من صنعوا مجدها.

يا للحضارة! أن تُشيّد المعاهد وتخترع الذرّة، لكنها تعجز عن تعليم الأبناء معنى البرّ، وتفشل في غرس بذرة الرحمة!

ألم يقل سقراط: “تربية النفس أولى من حكم المدينة؟”
ألم يبكِ روسو على “الإنسان الفاسد تحت القشرة المتحضرة”؟
أين فشلت أوروبا؟ وكيف جعلت أبناءها يتخلون عن آبائهم؟
أهو ثمن الحداثة؟ أم زيف التقدّم؟

عدت إلى وطني، وحمدت الله أن في بيوتنا ركنًا لا ينام، اسمه الأم، وصدرًا لا يخون، اسمه الأب، وأننا ما زلنا نعلّم أبناءنا أنّ الجنة تحت أقدام الأمهات، وأنّ العقوق من كبائر الذنوب، وأنّ البيت ليس جدرانًا بل أرواحًا متعانقة.

لكنّني أخاف… أخاف من الغد، من سياسيين يُنشدون الحداثة دون روح، ويرددون شعارات الغرب دون فقه. أخاف أن يُستبدل الدفء بالبارد، وأن يتحول الحب إلى رعايةٍ مدفوعة، وأن يُلقى الآباء كما تُلقى الأشياء القديمة.

أخشى أن يدخل الوجع بيوتنا، لا من الفقر، بل من جحود الأبناء.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button