أخبارالرئيسيةثقافة و فن

القلب المشتعل

نحْنُ لا نَمُوتُ حِينَ تَفنى أَجْسَادُنَا، بَلْ نَمُوتُ حِينَ نَفْقِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحُبّ — غابرييل غارسيا ماركيز – يقول الراوي

بقلم: د. مهدي عامري

” ما كنت أظنُّ أن الحب إشعالٌ للنار في القلب، ولا كنت أتخيل أن نظرةً واحدة تُحيل الروح إلى صحراء تتلظّى، والذاكرة إلى سرابٍ لا يُطال. كنت أؤمن أن العيون، مهما بَرقت، لا تُوقِد قنديلَ الوله في صدرِ راعٍ وحيدٍ مثلي. لكنني رأيتُها تمشي على استحياء عند سفح الجبل، فذُهلت.

كانت تحمل جرّة ماء، تسير كأن الأرض تستحي من وقع خطاها، وكأن الجبل يحني هامته لها. حسبتها طيفا من زمنٍ غابر، أو نذير معجزةٍ ضلّت سبيلها إلى واحةٍ أخرى، فجاءتني. نسيت ما علّمتني إياه الصحراء: أن كلّ ما يجيء بلا موعد، يرحل بلا وداع.

قالت حين كلمتها: “لن أقبل التحدث معك، فأنت تكتب الشعر، والشعراء يتبعهم الغاوون.”
قلت: “ليتني لم أكتب حرفًا، وليت قلبي لم يُولد شاعراً.”
قالت: “كلّ من قال ذلك، هلك.”

وغابت…

لم يكن حبًا عاديًا. كان نارًا تشتعل دون لهب. كنت أراها في الجبل، وفي سراب الطريق، وفي قمم النخيل، وفي ظلّ الجمال العابرة للقفار وفي انعكاس الضوء على صفحة الماء.

كنت أراها في اليقظة و الأحلام، وفي لحظات الصحو، أراها في كل شيء، وفي اللاشيء.

كانت معي في كل مكان.

كنت أراها في أول حرفٍ من اسمي، وفي آخر تنهيدة من ليلي. في القمر حين يكتمل، وفي السكون حين يخفت. صار حضورها حصارًا. ليلًا ونهارًا. وأنا أذوب و أنهار.

و كنت أبتعد عن القبيلة، و أتوحّد مع الجبل، و أرفض الطعام، و أنبش الرمل كأنني أبحث عن مفاتيح الغيب.

وذات فجرٍ، عند البئر، قلت لها:
“أراكِ حتى وإن لم أركِ، أراكِ وأنت لستِ هنا، أراكِ في وجعي.”
قالت: “الحب نار. وأنا قدر. اقترابك سيحرقك.”
قلت: “ليحترق قلبي و لتكن النهاية و ربما الاستشهاد، فلا يهم.. “

ثم اختفت و ذابت في الظلام..

قالوا إنها تبعت قافلة تجّار.
قالوا إنها ذهبت إلى البحر.
قالوا إنها انتحرت.
لكنني كنت الوحيد الذي لم يُصدق شيئًا. لأني ما زلت أراها.
أراها في الريح، في ظلّ النخليل، في زئير اسد الصحراء إذا غضب و كشر عن انيابه. أراها كأنها لم تبرح سفح الجبل.. لكنها لم تعد تنتمي اليه.

و مرت الاعوام..

و بدأ الحزن في صدري يتعمق. لم تعد النار مشتعلة كما كانت، لكنها لم تنطفئ. صارت جمرة تحت الرماد، تشتعل فقط حين أسمع اسمها، أو ألمح فتاة تمشي مثلها، أو أسمع أغنية تشبه خطواتها.

و قال لي أبي في لحظة من الغضب : “تزوّج ايها الاحمق. العزلة لا تليق إلا بالناسك أو المجنون.”
وتزوّجت.

زواجي لم يكن حبًا. كان صلحًا بيني وبين قبيلتي. كان توقيعًا على معاهدة غير مكتوبة، تُرضي الوالدين، وتُسكِت الألسنة. جلست أمام العروس، فلم أرَها. كنت أراها هي. نظرتُ إلى عيونها، فلم تلمع. فقلت لنفسي: “ما أضعته، لا يُعوَّض.”

أنجبت نصف دزينة من الاطفال.. أحببتهم بجنون. حد الموت. عشت في البيت، ولم أسكن. مرّت سنوات كثيرة. شيبتني الليالي، وأبقت في قلبي صبيًا صغيرًا ما زال يقف عند سفح الجبل، ينتظر أن تمرّ فتاة تحمل جرّة ماء.

و كل ليلة كنت أخرج إلى الشرفة، أنظر إلى القمر، وأسأل نفسي: هل كان حبًا أول؟ أم حبًا أخيرًا؟
لكن الجواب كان دائمًا واحدًا: كان كلاهما. و لعل الحب الاول هو الاخير.

و في العام العشرين على رحيل فتاة الجبل سمعت همسًا في المنام:
“الحب لا يموت، فقط يتخفى.”

استيقظت، ومشيت في الليل، وحيدًا، نحو سفح الجبل.

وصلت. كانت الريح تعوي، والسماء تحترق بنجومها. وقفت هناك، في نفس المكان، حيث رأيتها أول مرة. لم تكن هناك، بالطبع. لكنني رأيتها. بكل يقين، رأيتها.
مشَتْ على استحياء، كما كانت دائمًا.

ناديت باسمها، فلم تلتفت.

ناديت باسمها مرةً أخرى، ثم سقطت.

وآخر ما رأيته كان ظلها، يبتعد، و يذوب في الأفق…
تمامًا كما ذاب قلبي في المرة الأولى.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button