Hot eventsأخبارأخبار سريعةثقافة و فنصحافة وإعلاممجتمع

الكاتب الصحفي أحمد الميداوي يكتب.. دعوة مني إلى أشباه الجمعيات:”ارحموا المقاهي الثقافية يرحمكم الله”

الكاتب الصحفي أحمد الميداوي – الحدث الافريقي

لا يمكنني إخفاء استغرابي الممزوج بشيء من الامتعاض، من ملصق إخباري، سقط عندي من صديقة أغنت رفوف الخزائن والمكتبات بعطائها الروائي والمسرحي المتميز. الملصق ذيّلت له بملاحظة وجيهة، أنقلها للأمانة، كما توصلت بها: “المقهى بما هو مكان حواري تبادلي، يمتلئ بدفء الرواد الذين ينشئون فيه طقوسا للتجادل في القضايا الثقافية والأدبية والفنية، رحل، في زمن التفاهة الثقافية، بكراسيه وطاولاته ومستخدميه، للمعهد البلدي بمكناس”. ضحكتُ في الوهلة الأولى اعتقادا مني أنها مُزحة من صديقتي، لكن صدمتي كانت بالفعل كبيرة، حين اطلعت على مضمون الملصق، ويقول حرفيا: “ـ مكناس بجميع اللغات ـ ينظم المقهى الثقافي ل”كاليمار” بالمعهد البلدي بمكناس يوم 11 أبريل على الساعة الخامسة. من تنشيط فلانة” (وانتهى).
المقهى ينظم ماذا؟ لقاء؟ محاضرة؟ ندوة؟ حفل تكريم؟ الله وحده أعلم. ثم ما المقصود ب”كاليمار”؟ هل هو اسم المقهى الثقافي؟ اسم صاحب المقهى؟ أو يتعلق الأمر بمؤسسة تعنى بشؤون الموسيقى والغناء، ما دام المعهد البلدي الموسيقي، هو الحاضن للتظاهرة؟ كل هذه الأسئلة تبادرت إلى ذهني وأنا أقرأ الملصق الإعلاني الناطق بتخبط وشقاء ارتجالي يدعو إلى الرثاء. أسئلة نفضت عنها الغبار صديقتي بإفادتي مشكورة بأن “كاليمار” هو اسم جمعية حديثة النشأة، ما زالت تائهة ومترددة بين الثقافة، والموسيقى، والسهرات الغنائية، وتعهد الحفلات بفضاءات مخصصة للأعراس والمناسبات الاحتفالية.
أما المقهى الثقافي، فيُفهم من الملصق أنه حط الرحال بالمعهد، وقد عاينه الحضور وهو يقتحم المؤسسة الموسيقية بكراسيه وطاولاته، وأوانيه ومستخدميه. إنه لعمري العمى الارتجالي الذي غيُب في الملصق جمعية “كاليمار”، التي حوّلت نشاطها من مقهاها المألوف، إلى المعهد البلدي للموسيقى بمكناس.
غريب كيف غاب عن مصممي الملصق، أن المقهى الثقافي لا يمكنه الانتقال من مكان لآخر، على اعتبار أنه مكان، أي ملجأ حاضن لعدة شرائح مجتمعية، مختلفة في انتماءاتها، لكنها متلاقية في تطلعاتها الثقافية والأدبية والمعرفية، وهو ما يعطي للمكان بعدا تبادليا واسعا.
ولعلم مقهى “كاليمار” أن المقاهي الثقافية التي ظهرت أول ما ظهرت أواسط القرن السابع عشر بفرنسا، مع مقهى “بروكوب” (1661)، وكان يرتاده نخبة من الأدباء والفلاسفة، من أمثال فيرلين، وفولطير، وديدرو، وروسو وغيرهم، شاعت بشيوع الاتجاهات الفكرية لروادها، فتجد مقهى “بروكوب” ملجأ للأدباء والشعراء من مختلف المدارس والاتجاهات الأدبية، ومقهى “فلور” بالحي اللاتيني فضاء للسورياليين، الكتاب منهم والرسامون، وبالقرب منه مقهى “لاريجانس” قبلة للوجوديين، ومقهى “بليزانس” فضاء للرومانسيين، وغير ذلك من المقاهي المبصومة تاريخيا بالاتجاهات الأدبية والإبداعية لروادها.
والمقاهي منذ طهورها صممت بشكل يوحي بأنها ملاجئ حوارية وتبادلية بالدرجة الأولى، يقصدها الرواد للتجادل في القضايا الثقافية والأدبية والفنية. ويحاولون مع انتفاخ الحديث وانتشاره، بلورة رؤى صغيرة لثقافة يكبر فيها الزخم الفكري التعددي للأشياء..
ومن خاصيات المقاهي الثقافية، لعلم صناع الملصق، أنها فضاءات تفوح بنسيم الشعر والمسرح والمداولة الثقافية. وبداخلها، تشكلت مجاميع شعرية ومسرحية، وبها أيضا أصدرت بيانات لقائية، ومقالات عديدة في مختلف صنوف المعرفة.
وبالرجوع إلى ما قاله الروائي الكبير نجيب محفوظ من أن المقاهي “لعبت دورا كبيرا في حياتي وكانت بالنسبة لي مخزونا بشريا ضخما للأفكار والشخصيات”، نتبين قيمة هذه الأمكنة في المد التبادلي بين الأفراد، وفي الترويح عن النفس والتفريغ الاجتماعي. وقيمتها لا تتجلى فيما تقدمه من شاي وقهوة أو مشروبات مختلفة، بل فيما تفرزه من سلوكيات فردية وجماعية تختلف باختلاف المكان واختلاف هموم وتطلعات رواده. فالمقاهي شكلت منذ عقود جزءا من الوعي الثقافي المجتمعي، يكبر ويصغر بحجم العلاقة بين الفرد والمكان، وهي فوق ذلك، نسجت شرائح مختلفة من الرواد لكل واحدة منها حيزها الخاص، تتجادل فيه.. تمزح.. تجعل الفراغ وقتا مليئا بالدفء والمعرفة. فمن مقاهي المثقفين، ومقاهي السماسرة وهواة الخيول الخاسرة، ورجال الأعمال القناصة، والساسة المتسولون لأصوات قد لا تأتي، إلى مقاهي البطالة والتهميش، والمقاهي الرياضية والجمعوية..، تكبر هذه الأماكن وتصغر، تمتلئ وتفرغ، تصير مراكز ثقافية أو مجمعات ترفيهية، وتبقى وظيفتها الأساسية في نهاية المطاف، تقديم الحيوات الاجتماعية بزخمها ونشازها وتناقضاتها المختلفة.
دعوة مني، والحالة هاته إلى أشباه الجمعيات المغربية، أوجزها في عبارة واحدة :”ارحموا المقاهي الثقافية يرحمكم الله”، لا تفرغوها من رسالتها النبيلة، كمؤسسات لإشاعة المعرفة والثقافة بين روادها.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button