الأزمة القيمية في المدرسة العمومية المغربية: نحو فهم أعمق لأسباب العنف ومداخل الإصلاح

تعيش المدرسة العمومية المغربية في السنوات الأخيرة على وقع أزمة بنيوية عميقة تتجاوز الجانب البيداغوجي لتلامس ما هو قيمي وسلوكي واجتماعي. إذ لم يعد من الممكن اعتبار ما يقع داخل أسوار المؤسسات التعليمية مجرد اختلالات عرضية، بل أصبحنا أمام تحولات مقلقة تؤشر على خلل عميق في وظائف المدرسة، وعلى رأسها وظيفة التنشئة الاجتماعية.
إن بلوغ العنف المدرسي مستويات قصوى، تصل حد ارتكاب جرائم بشعة في حق الأطر التربوية، يشكل مؤشرا خطيرا على انزياح المدرسة عن دورها الأصلي، وعلى دخولنا في مرحلة فقدان البوصلة الأخلاقية والتربوية. هذا الواقع يستدعي وقفة تأمل جماعي واستحضارا لمسؤوليات كافة المتدخلين من أجل إعادة التوازن للمنظومة التعليمية التي باتت مهددة في عمقها.
ما يزيد الوضع تعقيدا هو أن بعض أشكال العنف لم تعد تقابل بالرفض المجتمعي التلقائي، بل أضحت تحظى في أحيان معينة بنوع من التبرير أو حتى الاحتفاء، كما حدث في واقعة جماعة سيد المختار بإقليم شيشاوة حيث تم استقبال تلميذ متهم بالاعتداء على أستاذه بحفاوة شعبية. هذه الواقعة ليست معزولة، بل تكشف عن خلل عميق في منظومة القيم وعن تصدع في الإدراك المجتمعي لماهية النموذج السلوكي الذي ينبغي ترسيخه.
لقد بات التلميذ المجتهد والمنضبط، الذي يفترض أن يكون قدوة ونموذجا، عرضة للتنمر والاستخفاف، بينما يُمجّد التلميذ الخارج عن الضوابط التربوية وتُمنح له رمزية اجتماعية مقلقة. هذا التحول في تمثلات الناشئة للنموذج المثالي ينذر بخطر داهم على المدرسة والمجتمع معا، ويستدعي إعادة نظر شاملة في الأساليب المعتمدة في التربية والإعلام والضبط المجتمعي.
في ظل هذه المعطيات، يصبح من الضروري مساءلة الأدوار التي تلعبها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أضحت في كثير من الأحيان فضاء لإعادة إنتاج الرداءة وتكريس أنماط سلوكية منحرفة، عبر ما يسمى بـ”المؤثرين” الذين يروجون لخطابات تحريضية ضد المؤسسة التعليمية وأطرها، ويزرعون في عقول الناشئة مفاهيم مغلوطة حول السلطة التربوية، مستعملين في ذلك لغة سوقية خالية من أي مضمون معرفي أو أخلاقي.
ولعل من بين أبرز التحديات المطروحة، مسؤولية الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية. فغياب التوجيه الأسري أو تحميل الأبناء شحنات سلبية تجاه المدرسة والأستاذ، لا يؤدي فقط إلى فقدان الاحترام، بل يخلق بيئة خصبة لنمو سلوكات عدوانية وهامشية قد تنتهي بالهدر المدرسي أو تبني أنماط سلوكية جانحة، تهدد التلميذ والمجتمع على حد سواء.
إن تجاوز هذه الأزمة يقتضي تفعيل مقاربات شمولية ومندمجة، تنخرط فيها كافة الأطراف:
• الوزارة الوصية مطالبة بإطلاق برامج تربوية إصلاحية تعيد الاعتبار للمدرسة كمؤسسة مواطِنة، وتحسن جودة البيئة التعليمية وتعزز الأمن التربوي داخل المؤسسات.
• الأسرة مطالبة بتأهيل أبنائها لاحترام المؤسسة التربوية وأطرها، باعتبارهم شركاء في التربية، لا خصوما.
• الإعلام، بكل مكوناته، يتحمل مسؤولية توجيه الرأي العام من خلال برامج ومحتويات تعيد الاعتبار للمعرفة وتحارب التفاهة وترسخ ثقافة الاحترام والحوار.
• المجتمع المدني يمكن أن يلعب دور الوسيط والفاعل الداعم في تنظيم ورشات تأطير وأنشطة تحسيسية.
فإن استمرار التعاطي مع هذا الوضع بمنطق رد الفعل والاكتفاء بدور المتفرج، لن يؤدي سوى إلى تفاقم الأزمة، وقد يفضي – لا قدّر الله – إلى انهيار ما تبقى من الثقة في المدرسة العمومية، وإلى انفجار اجتماعي من نوع جديد، عنوانه فقدان المعنى وغياب الأمل وتشظي القيم.