الإنسان الرقمي والإنسان المُرقمَن: قراءة في ضوء علم الاجتماع الإعلامي السيبراني

بقلم: أحمد اكلكيم -صحافي و باحث في علم الاجتماع الإعلامي
في خضمّ التسارع المذهل للتحولات التكنولوجية التي أعادت تشكيل ملامح الوجود البشري، لم يعد العالم الرقمي مجرد أداة نخترعها أو مساحة نتواجد فيها، بل تحوّل إلى نسيجٍ وجودي ينسج تفاصيل حياتنا اليومية بكل تعقيداتها. لقد تجاوز الإنسان حدَّ كونه “مُستخدِماً” للتقنية ليصبح جزءاً عضوياً من بنيتها، يُنتج البيانات ويتفاعل مع الخوارزميات، ويُعاد تشكيل هويته وقيمه ضمن فضاء سيبراني لا يعترف بالحدود التقليدية للزمان والمكان.
بينما يرى البعض في هذا “التحول الرقمي” بوابةً نحو التمكين والانفتاح غير المسبوق، يثور آخرون بتساؤلاتٍ نقديةٍ عميقة: هل نحن أمام تحريرٍ للإنسان أم اختزاله إلى مجرد “كيان مُرقمن” يُدار بواسطة رموزٍ ثنائية؟ وأين يقع التوازن بين اندماجنا في العوالم الرقمية كفاعلين مُبدعين، وتحوّلنا إلى مكوناتٍ قابلةٍ للقياس والتحكم ضمن آلةٍ تكنولوجيةٍ شاملة؟
تُحاول هذه المقالة السوسيو-إعلامية تفكيك الإشكالية المعقدة لعلاقة الإنسان بالرقمي والمرقمن، انطلاقاً من التناقض الجوهري بين خطاب التقديس التكنولوجي الذي يرفع شعارات التطور والكفاءة، وخطاب التحذير الذي يُنبه إلى مخاطر الانزياح عن البُعد الإنساني في ظلّ سيطرة المنطق الرقمي على كل مناحي الحياة.
فبينما يُشكّل “الرقمي” – بوصفه واقعاً جديداً – فضاءً للاحتمالات اللامتناهية، يطرح “المرقمن” أسئلةً وجودية حول مصير الكينونة الإنسانية في عصرٍ تُعاد فيه كتابة قواعد الوعي والعلاقات والسلطة بلغة البايتات والأنظمة الذكية.
بين “الرقمي” و”المُرقمَن”: تعريف وتمييز
قبل الدخول في صلب التحليل، لا بد من توضيح المفاهيم الأساسية.
يشير مصطلح “الرقمي” إلى كل ما يتعلق بأنظمة المعلومات والتواصل الإلكترونية، بما في ذلك الإنترنت، الوسائط الاجتماعية، التطبيقات الذكية، والذكاء الاصطناعي. “الرقمي” هنا ليس فقط وسيلة أو وسائط، بل هو نظام إدراكي ومنظومة رمزية أعادت تشكيل الزمن، الفضاء، والهوية.
أما مصطلح “المُرقمَن”، فيحيل إلى الكائن أو العنصر الذي خضع لعملية تحويل إلى بيانات قابلة للحفظ والمعالجة الآلية. في هذا السياق، يصبح الإنسان نفسه قابلاً لـ”الرقمنة”؛ تُختزل ملامحه وسلوكياته إلى بيانات، تُخزَّن، تُحلَّل، وتُستخدم لأغراض متعددة: تجارية، أمنية، إعلامية، وحتى نفسية.
من الإنسان الفاعل إلى الإنسان الخاضع
الإنسان الرقمي هو ذلك الفرد الذي يتفاعل، يتعلم، يشارك، ويصوغ ذاته ضمن بيئة رقمية. هو نموذج لـ”الذات المتصلة” التي تنخرط في تدفقات مستمرة من المعلومات والعلاقات العابرة للحدود.
لكن مع تطور تقنيات الرصد والتحليل الخوارزمي، يتحول هذا الإنسان الرقمي إلى “إنسان مُرقمَن”؛ أي إلى موضوع للتحكم الناعم، وذخيرة للبيانات التي تُستثمر من قبل أنظمة الذكاء الاصطناعي، والإعلانات الموجهة، وأجهزة المراقبة الاجتماعية.
ضمن هذا المنظور، لا تعود الحرية الرقمية افتراضية بالكامل؛ بل تنقلب إلى شكل من التحكم السيبراني الذي يُمارس من خلال آليات “الاختيار الموجّه”، و”الخطاب المُهيكل”، و”الهوية المُصفّاة” عبر الفلاتر والخوارزميات.
تعريف علم الاجتماع الإعلامي السيبرياني
هو حقلٌ معرفيٌ ناشئٌ يجمع بين علم الإعلام الرقمي، والدراسات السوسيوتقنية، وتحليل الثقافة السيبرانية، بهدف إلى فهم التفاعلات المعقدة بين الإنسان والفضاء الرقمي بوصفه بيئةً اجتماعيةً وسياسيةً وثقافيةً جديدة. يركز هذا العلم على دراسة كيفية تشكُّل الهُويات الفردية والجماعية، وأنماط التواصل، وممارسات السلطة، ضمن العوالم الافتراضية التي تزداد ترابطًا مع الواقع المادي.
ينطلق من فرضية أن الفضاء السيبراني لم يعد مجرد “أداة اتصال” محايدة، بل فضاءً حيويًّا تُعاد فيه صياغة المفاهيم التقليدية للخصوصية، والمشاركة المجتمعية، والهيمنة الثقافية، عبر آلياتٍ رقميةٍ مثل الخوارزميات، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي. كما يدرس هذا العلم التأثيرات النفسية والاجتماعية لاندماج الإنسان في الشبكات الرقمية، من انزياح حدود الواقع والافتراضي، إلى تحوُّل الأفراد إلى “كيانات قابلة للرقمنة” تخضع لمراقبة دائمة وتحليل كمّي.
بهذا، يُعتبر علم الإعلام الاجتماعي السيبرياني جسرًا بين النقد الاجتماعي لفلسفة التكنولوجيا، والتحليل الإعلامي للأنظمة الرقمية، ساعيًا إلى كشف التناقضات بين خطاب التحرر الذي تَعِدُ به المنصات الرقمية، وآليات الهيمنة الخفية التي تُعيد إنتاج اللا مساواة عبر الفضاءات الافتراضية، مما يجعله أداةً أساسيةً لفك شفرات العصر الرقمي وإعادة التفكير في مستقبل الإنسانية ضمن المنظومة السيبرانية الشاملة.
وهم التفرد في الخطاب الرقمي
غالباً ما يعتقد مستخدمو المنصات الرقمية أنهم حين ينشرون فكرة أو صورة أو رأيًا، فإنهم يعبرون عن تفردهم. لكن الواقع السيبراني، كما تؤكده دراسات تحليل الخطاب الرقمي، يكشف عن تشابه كبير بين الخطابات، وتكرار للأنماط. فالمحتوى اليوم يُولّد استجابة لتوصيات خوارزمية، تتغذى بدورها على اتجاهات السوق والذوق الجماعي.
وهكذا، يصبح الخطاب الرقمي جزءًا من اقتصاد رمزي تهيمن عليه ثقافة الترند. وما يبدو تعبيراً ذاتياً أصيلاً، ما هو إلا إعادة إنتاج لأطر تعبيرية مهيمنة. إنها حالة من “التمثيل الذاتي المُؤَدلج رقمياً”، حيث يصبح التفرد استهلاكياً، لا نقدياً.
سؤال المصير… أي إنسان في عصر الرقمنة؟
التمييز بين “الرقمي” و”المُرقمَن” ليس لغوًا فلسفيًا، بل هو دعوة لإعادة التفكير في موقع الإنسان وسط التحولات الرقمية.
فإذا كان “الإنسان الرقمي” هو مشروع للتمكين والاتصال والانفتاح، فإن “الإنسان المُرقمَن” هو علامة على تراجع الإنسان من مركز الفعل إلى مركز الرصد، ومن حرية التعبير إلى قابلية التوجيه.
وهنا، يطرح علم النفس الاجتماعي السيبراني سؤالاً وجودياً:
هل نحن نُطوّع التكنولوجيا، أم أن التكنولوجيا تطوّعنا؟
وهل يمكن أن نُعيد بناء “الذات السيبرانية” بما يحفظ تعدديتها، حساسيتها الإنسانية، وعمقها الداخلي في وجه أشكال التبسيط الخوارزمي؟
بين الإنسان الرقمي والإنسان المُرقمَن، يضيع أحياناً خيط الذات الحرة. وفي عالم تتكاثر فيه الشاشات، وتتشابه فيه الخطابات، تصبح الحاجة ملحة إلى وعي نقدي، قادر على إعادة الإنسان إلى مركز المعادلة الرقمية، لا كبيانات قابلة للتحليل، بل كذات حرة، خلاقة، ومتفردة رغم كل شيء