رحلة الروح في زمن الخوارزميات : بين حكمة الصمت وضجيج الذكاء الاصطناعي

كان اسمه الشيخ الطاهر.. وقد تجاوز الثمانين ببضعة شهور. يعيش في مرتفعات تمحضيت، ولا يملك هاتفًا محمولًا، ولا يعرف شيئًا اسمه الإنترنت، ولم يزر المدن الكبرى منذ عشرين عامًا. جلاليبه من الصوف المحلي، وبيته من الطين، ووجهه محفور بتقلبات الزمن كأنه خريطة تفاعلية لأسرار لا يعرفها إلا من تطهرت أرواحهم، وصارت قلوبهم مشكاةً يتجلّى فيها النور الإلهي، فلا حاجة لها إلى مصابيح الدنيا، لأن المولى قد أضاءها بنور حضرته.

كاتب وخبير في التحول الرقمي
أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال
وكان الناس من القرى المجاورة يأتون إلى الشيخ الطاهر لا طلبًا للدواء أو للفتوى، بل لأنهم يشعرون أن حديثه معهم يعيد ترتيب العالم داخلهم. كانوا يقولون: إذا صمت الشيخ الطاهر، شعرنا أن الأرض توقفت عن الدوران، ففي حديثه قبس من نور الله.لا يملك الرجل شهادة جامعية، ولا يعرف القراءة والكتابة، ومع ذلك، فإن كلماته تسبق الكتب في الوصول إلى القلوب.
هذا الرجل، الذي عاش منعزلاً عن ضجيج المدن، كان يُقرأ في وجهه معنى قوله تعالى:﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]فهو لم يتعلّم في مدرسة كلاسيكية، بل كان حظه ونصيبه الاغتراف من ينابيع الله الكبرى: وهي الخلوة، والصمت، والمراقبة.وقال كل من جلس معه إنه رأى فيه نوعًا من الفراسة التي تُفزعك بصدقها. فإذا سئل عن أمرٍ ما، أجاب بطريقة لا تفسّرها المناهج العلمية، بل بأسلوب يذكرنا بحديث الحبيب المصطفى:«اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله».
وحين ينظر الشيخ الطاهر في عينيك، تعرف أنك لا تستطيع الكذب. ليس لأنه يحاكمك، بل لأنه يراك كما أنت، دون قشور.في اليوم السابع من شهر أغسطس الماضي، جاءه شاب مغربي بيضاوي، مقيم وعامل لأزيد من عشرين سنة بـ”سيليكون فالي”.
كان عالم كمبيوتر، مثقفًا، ويحمل لابتوبًا أنيقًا، وفهمًا وتراكمًا كبيرين لأقوى علم في القرن الحادي والعشرين: الذكاء الاصطناعي. أراد موسى، وكان هذا اسمه، أن يناقش الشيخ في “مستقبل المعرفة”.وسأله الطاهر بهدوء:– وماذا فعلت بهذه المعرفة؟أجابه الشاب بثقة:– أدرّسها، أكتب عنها، أركّب نماذج، أدرّب روبوتات.
ابتسم الشيخ وقال:– وهل عرفتَ نفسك؟لم تكن إجابة الطاهر من باب الحكمة الزائفة، بل كان يعنيها. فالعلم الذي لا يكشفك لنفسك، هو مجرد قيد جديد على العقل. وهذا ما عبّر عنه ابن عربي حين قال:«متى أطلقك العلم إلى الله، فاعلم أنه علم لدني، ومتى قيدك بنفسك، فاعلم أنه علم كسبي».
صراحة… لم يكن الشيخ الطاهر يعرف هذه المقولة، لكنه كان يعيشها بالفطرة. فعلمه لم يُحشر في الأوراق العلمية أو براءات الاختراع، بل كان يسكن نظراته، ومشيته، وحتى صمته.كان شيخنا يشبه الشجرة التي لا تتكلم، لكنك إذا جلست تحتها، استظللت بالرحمة المهدَاة، وكُشفَت لك شعلة من حقائق الوجود.
لم يكن الشيخ إنسانًا يعلّم، بل تجسيدًا للعلم اللدني: وهو علم لا يُنقل، بل يتم توصيله، وربما توريثه، لمن يملك طاقة التلقي والاستقبال، بوساطة الذوق.في الجانب الآخر من العالم، كانت المختبرات تتسابق لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي.
آلاف الخوارزميات تُبرمج، وملايين البيانات تُضخ، والهدف الظاهري: “جعل الحياة أسهل”.لكن السؤال العميق يبقى مطروحًا:هل تستطيع الآلة أن تفهم الإنسان؟ هل تقدر على سبر أغوار روحه؟لعل الجواب، بالنسبة لأمثال الشيخ الطاهر، هو كلمة واحدة قاطعة: لا.فالآلة يمكنها أن تحاكي الصوت، لكنها لا تسمع بكاء الروح.يمكنها أن تكتب قصة عاطفية أو قصيدة حزينة، لكنها لا تعرف المعنى العميق للبكاء، ولا تعرف ما هو الألم.
علاوة على هذا، الآلة يمكنها أن تجيبك عن “كيف تم ذلك”، لكنها تعجز عن تفسير “لماذا تم”.ومرّت الأيام، وفي الأسابيع الأخيرة من شهر مارس لهذا العام، سُئل الطاهر عن الذكاء الاصطناعي فقال:– إذا أردت أن تعرف ما لا تعرفه الآلة، فاجلس ساعة وحدك، بلا هاتف، بلا ضوء، واسأل نفسك سؤالًا واحدًا: من أنا؟ ماذا أفعل في الكون؟ هل أخلد فيه؟ إلى أين أنا ذاهب؟وأضاف:– الذكاء الاصطناعي الذي لا يجعلك تعرف نفسك، هو مجرد تعبير صريح عن الضياع وفقدان البوصلة في عالم بلا خرائط.كلمات قوية وملهمة… أليس كذلك؟وصَدرت عن من؟ شيخ طاعن في السن، لم تطأ قدمُه يومًا المدرسة… لكنه خبر الحياة، واكتوى بتجاربها، واستوعب كنهها بسجيّته.
فعلاً… لقد كان الشيخ يدرك بفطرته أن المعرفة الحقيقية لا تأتي من الشاشات، بل من الداخل. ولهذا، فإن العلم اللدني لم يُخلق للمدن التي لا تنام، بل يُولد في الأماكن التي يصمت فيها الإنسان، وتتكلم الأشجار، والريح، والماء.
دعونا الآن نلخص:جوهر العلم اللدني ليس في الكمّ، ولا في التكنولوجيا، بل في صفاء القلب، والقرب من الواحد الأحد.. مهما بلغت الآلات من تطور، فإنها لن تستطيع أن تحلّ محل من يرى بنور الله، ولا أن تتنبأ بوميض البصيرة، ولا أن تتذوق المعاني التي تسكن دمعة نازلة في صمت الليل.. تتجلّى مفارقة العصر في أننا نملك بيانات أكثر من أي وقت مضى، لكننا، رغم التقدم العلمي الهائل، نجهل أنفسنا إلى حدّ التيه، وأكثر من أي عصر مضى.
ختامًا، إن الشيخ الطاهر ومَن يمشي على نهجه، لا يصنعون محتوى رقميًا، ولا يدخلون في جدالات فلسفية حول مفهوم “ما بعد الإنسان”، لكنهم، ببساطة، يحملون نورًا حقيقيًا يهدي السالك في لجّة الظلمات.وما نحن بحاجة إليه اليوم، في زمن الذكاء الاصطناعي، ليس فقط أن نبرمج آلات ذكية ونشكّل الرأي العام بالخوارزميات،بل أن نقتفي خطى كل إنسانٍ بصيرٍ مستنير،يعرف متى يصمت، ومتى يتكلم،ومتى يحتكم إلى عقله،وأخيرًا… متى يستفتي قلبه.