أخبارفي الصميم

الحوارات العظمى والعيش المشترك طريق بناء مجتمع الأمة

بقلم: عبدالله العبادي

للأفكار والنظريات الفكرية والعلمية تاريخ وجغرافيا، فعبر التاريخ برزت حضارات وانهارت حضارات، وقامت حضارات أخرى بعد انكماش طويل. إنها الدورة الحضاراتية -في رأيي-  إذا استعنا بالتحليل الخلدوني لنشوء وتطور وانحلال الحضارات.

الغريب في الأمر أن الحضارة العربية، ومنذ حوالي عشرة قرون، ومنذ خروجها من الأندلس، اعتادت التبعية والفكر الانهزامي الذي سهل السيطرة عليها من دول الغرب والشرق على حد سواء، حتى صارت الدول العربية أكثر تفكك وانقسامات بالجملة. فبعد بصيص أمل رافق رواد الفكر مع نهاية القرن التاسع عشر، سريعا ما انطفأ بمباركة النخب السياسية والمجتمع والمصالح الضيقة. فتقاسم المجتمع العربي نخب متعصبة وأخرى متشددة، ونخب فرانكفونية وثانية أنكلوسكسونية، ولا زلنا على نفس الحال، دون جديد يذكر.

عبدالله العبادي

لقد تطور كل شيء من حولنا، في الزمان والمكان بارتباط مع المعطيات والخصوصيات الوطنية، تقدمت الصين وكوريا الجنوبية واليابان بلغتهم الأم وثقافاتهم وهوياتهم المحلية، ونحن لا زلنا نصارع هل الفرنسية أم الإنجليزية أولى، رغم أن اللغة العربية تعتبر من أجود وأغنى اللغات مفردات حسب دراسة لجامعة بريطانية، وكل يوم ننسلخ من جلدنا لنلحق بالآخر، تعبيرا قدحيا عن ضعفنا ودونيتنا.

من لا زال يعتقد أن الدين واللغة والتاريخ المشترك عوامل للاندماج والوحدة فهو خاطئ – في اعتقادي- فالوحدة والتكتل اليوم تتطلب رغبة جماعية ومجتمعية في العيش المشترك، وعقلا جماعيا ناضجا يؤمن بها، مهما اختلفت الديانات واللغة والتاريخ، وسويسرا نموذجا.

فما حصل بعد وفاة الزميلة شيرين أبوعاقلة بفلسطين، يمثل تجسيدا حيا لما أدافع عنه، فقد رافقها في موكبها الأخير المسلمون والمسيحيون على حد سواء، باعتبارها مواطنة فلسطينية قبل كل شيء، وهو نموذج حي للتعايش السلمي في رقعة جغرافية ما، بغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية.

الشيء الذي لا يستسيغه العديد من المتشددين، أصحاب الزاوية الواحدة للرؤية، أولئك الذين لم يجددوا شيئا في مخيالهم وعقولهم. نفس الشيء يحدث مع الكثير من اليساريين، الذين لم يجدوا سوى الدين ليقصوه لتحقيق لقب يساري، تحت يافطة الدين أفيون الشعوب. رغم أنه يمكننا أن نؤمن بالفكر اليساري الذي يتماشى وخصوصياتنا الهوياتية والدينية والثقافية والمجتمعية أيضا.

فقد تمددت العديد من الإمبراطوريات قديما، كالإمبراطورية المغربية التي وحدت قبائل مختلفة تحت راية السلطان، فاختلفت لغاتها وأعراقها وألوانها، لكن وحدتهم الرغبة في العيش المشترك، من نهر السنغال إلى البحر الأبيض المتوسط. تلك هي أسمى أهداف الإنسانية وأخلاق الإنسان النبيلة، المتمثلة في احترام الآخر، وتقبل اختلافه، وهو المفهوم الذي تدافعه عنه العديد من الديمقراطيات الغربية التي تعرف تدفقا كبيرا للمهاجرين وتسميه بالاندماج الاجتماعي.

فالعيش المشترك هو محبة وتآنس، هو رغبة جامحة في تحقيق العدالة والتكافآت المجتمعية بين الأفراد مهما اختلفوا، إنها عدالة مصحوبة بالحكمة والعقل والوفاق بين الجميع،  من أجل تحقيق مجتمع سوي وعادل وقادر على أن يتسع للجميع في احترام تام للآخر وفي احترام كامل لمقدسات الدولة.

لا أحد ينكر أن المجتمعات العربية تسعى منذ عقود لتحقيق المجتمع المنشود، لكنها في نفس الوقت أكثر المجتمعات تقسيما وتشرذما وحروبا. فالعيش المشترك تجربة إنسانية تدق أبوابنا وربما تخلصنا من حالة الانهيار الذي تعيشه العديد من المجتمعات العربية، وإنهاء حالة الفوضى من خلال رؤية واضحة وإرادة صلبة وعمل شاق في سبيل خلق الحقائق التي تمكننا من العيش بسلام وآمان، بعيدا عن التعصبات الطائفية والقبيلة والإيديولوجيات القاتلة.

فبدون عيش مشترك، لن يتحقق الاستقرار، ما دمنا نقيم الدنيا ونقعدها فقط حين يتعلق الأمر بالترحم أو عدم الترحم على الآخر، خصوصا وأن مجتمعاتنا العربية تحتضن تعدديات عمودية وأفقية، بحاجة إلى حوارات عظمى لإرساء حقائق ومتطلبات العيش المشترك.  

كما أن نجاح التوافقات الوطنية من شأنها توفير الظروف الموضوعاتية والذاتية، وإنهاء حالة الإنغلاق الداخلي، وحصنا منيعا أيضا للتدخلات الأجنبية التي تسعى دوما للتقسيم، لتحقيق مصالحها الإمبريالية. لنتحول فعليا إلى المجتمع الأمة، أمامنا طريق طويل وشائك يبدأ بفتح سجال فكري ونظري يجمع كل النخب المثقفة عربيا، لتذويب الخلافات العالقة وفتح الطريق نحو وضع استراتيجيات فكرية جديدة، من تربة عربية وأمازيغية وقبطية وإسلامية … همها الوحيد هو، الفرد المواطن أولا.

فتطورنا رهين بتحقيق الاستقرار، الذي بدوره رهين تحقيق العيش المشترك، الذي بدوره يبقى رهين تحقيق البناء الوطني الشامل الذي يتطلب من النخب المثقفة بلورة رؤى ونظريات تعايشية جديدة.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button